سوريا: فوضى دستورية في انتظار المؤتمر الوطني

عكس التأجيل المتكرّر لموعد انطلاق المؤتمر السوري الوطني، ارتباك الإدارة الجديدة في إدارة ملف المرحلة الانتقالية. ومنذ لحظة إعلان أحمد الشرع نيّته عقد المؤتمر، طغى على التعامل مع هذا الملفّ انعدام الشفافية والافتقار إلى الحدّ الأدنى من متطلّبات التنظيم.
وقد سُرّبت الأسبوع الماضي، عبر وسائل إعلام محلية كانت تابعة للنظام السابق ثم هيمنت عليها "هيئة تحرير الشام"، أهمّها صفحة جريدة "الوطن" على "الفايسبوك"، معلومات مفادها أنّ المؤتمر سيُعقد في 4 أو 5 من الشهر الجاري، قبل تسريب معلومات عبر وكالة "الأناضول" أنّ المؤتمر سيُعقد في منتصف هذا الشهر. وتبيّن في ما بعد عدم وجود موعد محدّد له، وتناقلت وسائل إعلام عديدة ألّا صحة لعقده في منتصف الشهر، وأنّ موعده سيكون بعد 20 كانون الثاني (يناير) من دون تحديده على وجه الدقّة.
وكانت قد وجّهت انتقادات إلى طريقة تعامل الإدارة السورية مع انعقاد المؤتمر لعدم اتسامها بالشفافية ولغياب المعايير الواضحة في تشكيل اللجنة التحضيرية، وعدم الإعلان عن أسماء أعضائها، كذلك عدم إعلان آليات تحديد المشاركين الذين قيل إنّ عددهم قد يصل إلى 1200 مدعو، وأسباب اختيارهم وما هي خلفياتهم وكيف تمّ التأكد من تمثيلهم للفئات التي سوف يقسم المدعوّون على أساسها.
ومن غير الواضح ما إذا كانت الانتقادات الداخلية هي التي دفعت الإدارة الجديدة إلى تأجيل موعد انعقاد المؤتمر أو ثمة أسباب خارجية لهذا التأجيل، خصوصاً أنه لوحظ أن ترحيل موعد انعقاده إلى أجل غير محدد جاء بعد زيارة الوفد السوري المملكة العربية السعودية، وكذلك بعد انتهاء زيارة وزيري خارجية ألمانيا وفرنسا لدمشق.
وتنقسم الآراء في سوريا بشأن المؤتمر وموعد انطلاقه، إذ يرى البعض أن المجتمع السوري بحاجة إلى وقت أطول كي يعيد تنظيم نفسه ويفرز قيادات تمثله. بينما يتخوف آخرون من أن تستغل الإدارة الجديدة الفراغ الدستوري لتوطيد حكمها وتقوية قبضتها على مفاصل الدولة، الأمر الذي سيجعل من مقررات أي مؤتمر مجرد شرعنة لتصرفاتها وإجراءاتها.
عملياً، فإن الإدارة الجديدة لم تمهل السوريين الكثير من الوقت قبل أن تبدأ باتخاذ إجراءات حاسمة وتسارع إلى إصدار قرارات جديدة لتأسيس جيش جديد قبل أن يتضح مصير ضباط وعناصر في الجيش السابق، كما قررت حل العديد من مؤسسات الدولة كالأجهزة الأمنية بفروعها كافة، وهيئة الرقابة والتفتيش، ومؤسسة الجمارك، واستبدلتها بالهيئة العامة للمعابر البرية والبحرية، وغيرت هوية الاقتصاد إلى اقتصاد السوق الحر مع ما استتبعه ذلك من سماح بالتعامل بعملتي الدولار والليرة التركية، وكان آخر إجراءاتها التي لاقت اعتراضاً واسعاً تغيير وزارة التربية مناهج التعليم.
وتجدر الإشارة إلى ظاهرة فريدة في سوريا انبثقت من التغيير الذي شهدته إطاحة نظام بشار الأسد، تمثلت في محاولات كبيرة تبذلها أطراف مختلفة بهدف احتواء الإدارة الجديدة والعمل على إنجاحها، وإن تطلب ذلك السكوت عن بعض الانتهاكات أو الأخطاء التي تحصل هنا وهناك.
وكان من بين هؤلاء علماء الدستور والقانون في سوريا الذين أدركوا بحكم خبرتهم حجم الخروق التي تحصل من الإدارة الجديدة لكلّ نماذج الانتقال السياسي المعروفة في العالم، وعدم تقيدها بالحد الأدنى للمعايير المطلوبة قانوناً ودستوراً، ولا سيما قيام حكومة تصريف الأعمال الحالية بممارسة صلاحيات تشريعية ليست من اختصاصها.
وقد جاء إعلان وزير العدل في حكومة تصريف الأعمال عن إمكان استئناف المحاكم عملها خلال أيام قليلة، كي يدفع بعض هؤلاء إلى إعلاء صوتهم مطالبين بضرورة العمل لإيجاد أطر دستورية سريعة قبل أن تستشري الفوضى.
وثمة من رأى أن التأخّر في إصدار صكّ دستوري يملأ الفراغ التشريعي سيربك عمل الدولة، لعدم وجود سلطة محدّدة تتولّى عمل المشرّع وإصدار التشريعات اللازمة، وهذا ما يفسّر تجاوز رئيس الوزراء قبل يومين صلاحياته وإحداث هيئة عامة لإدارة المعابر ومنحها الشخصية الاعتبارية، وهذه المسألة من صميم عمل المشرّع، كما كتب المحامي عارف الشعال، وهو معارض قديم لنظام الأسد، على صفحته في "فايسبوك".
وأضاف الشعال الذي رشّحه مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان رامي عبد الرحمن لتولّي منصب وزير العدل في الحكومة العتيدة: "مع افتتاح العمل القضائي وعودة المحاكم للعمل بعد يومين، ستظهر مشاكل أخرى كبيرة، تتمثل، على سبيل المثال، في عودة محكمة الإرهاب للعمل ومتابعة الدعاوى التي كانت تنظر فيها، إضافة إلى اضطرار المحاكم المدنية والجزائية إلى تطبيق القوانين التي تحظر التعامل بالعملة الأجنبية، بينما الشعب بأكمله بات يتعامل بالدولار الآن!".
وحذّر من أن هذه المواضيع، إذا سارت في ضوء التشريعات النافذة، سوف تتنافى مع جوهر الثورة، ما يتطلّب إصدار صكوك تشريعية تعالجها، ولا يكفي بطبيعة الحال أن تعالج بقرارات تصدر عن وزير أو رئيس الوزراء.
وعلى ما يبدو، ليس هناك حلّ جاهز للخروج من هذه المعضلة، إذ بينما اقترح الشعال الاستعانة بنموذج انقلاب حسني الزعيم في أواخر أربعينات القرن الماضي، بمعنى أن يمنح أحمد الشرع نفسه السلطتين التشريعية والتنفيذية، وجد آخرون أنّ ذلك سيؤدّي إلى نتائج عكسيّة وقد يجرّ البلاد إلى سطوة استبداد جديد. ويظلّ هناك من يعتقد أن الحكم الجديد لديه حزمة متكاملة جاهزة بما فيها الدستور والقوانين المختلفة، لكنه لن يخرجها قبل أن يضمن تغطيتها شعبياً، وهو دور المؤتمر الوطني المرتقب.