الخليج وروسيا: واقعية الشراكة بلا انحياز

الخليج العربي 24-10-2025 | 05:42

الخليج وروسيا: واقعية الشراكة بلا انحياز

تقوم المقاربة الخليجية تجاه موسكو على مبدأ الانفتاح المتوازن، الذي يُبقي الباب مفتوحًا أمام التعاون من دون الانحياز السياسي أو الاقتصادي.
الخليج وروسيا: واقعية الشراكة بلا انحياز
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد، موسكو، 21 أكتوبر 2024 (أ ف ب)
Smaller Bigger

حين تتقاطع الجغرافيا بالمصالح، وتتحوّل السياسة إلى فنّ إدارة التوازنات بين القوى، تجد دول الخليج العربي نفسها في موقعٍ فريد من المشهد الدولي؛ موقعٍ يتيح لها بناء شراكات متعدّدة من دون أن تنجرّ إلى محاور الصراع. فالعالم اليوم لم يعد محكوماً بثنائية الشرق والغرب، بل بتعدد الأقطاب، حيث تصعد روسيا مجددًا لاعبًا رئيسيًا في الشرق الأوسط، بينما تُعيد دول الخليج توازن علاقاتها معها وفق رؤية أكثر واقعية ونضجًا.

تقوم المقاربة الخليجية تجاه موسكو على مبدأ الانفتاح المتوازن، الذي يُبقي الباب مفتوحًا أمام التعاون من دون الانحياز السياسي أو الاقتصادي. فالإمارات والسعودية وقطر وسائر دول مجلس التعاون الخليجي تنظر إلى روسيا بوصفها شريكًا استراتيجيًا في مجالات الطاقة والتكنولوجيا والأمن الغذائي، وفي الوقت نفسه تُدرك أن أي تقارب يجب ألا يأتي على حساب علاقاتها التاريخية مع الغرب. تلك البراغماتية الخليجية ليست ترفًا ديبلوماسيًا، إنما ضرورة تفرضها التحولات في النظام الدولي.

ينطلق اهتمام الخليج بروسيا من رغبة استراتيجية في تنويع موازين القوة والعلاقات الدولية باتجاه تحقيق عالم أكثر عدالة. فروسيا تمثل مصدرًا بديلًا في مجالات الطاقة النووية السلمية، والزراعة، والصناعات الدفاعية، والتقنيات المتقدمة، إضافةً إلى دعم المواقف الخليجية في ملفات إقليمية مثل سوريا واليمن، بالحوار لا المواجهة. كما ترى دول الخليج في موسكو شريكًا يمكنه المساهمة في دعم الحلول السياسية للأزمة السورية، وضمان توازن القوى في المشهد الإقليمي، بما يحفظ مصالح العرب ويحدّ من تمدد الأزمات الأمنية إلى الجوار.

أما روسيا، فاهتمامها بالخليج ينبع من أبعاد اقتصادية وجيوسياسية متشابكة. فدول مجلس التعاون تمثل أحد أهم الأسواق لرأس المال الروسي والاستثمارات في البنية التحتية والطاقة، كما تُعدّ محورًا حيويًا في النظام المالي العالمي بفضل سياساتها المستقرة واحتياطاتها النقدية الضخمة. ومن منظور جيوسياسي، يُدرك الكرملين أن الخليج هو البوابة الآمنة إلى العالم العربي وأفريقيا وآسيا، وأن الحفاظ على علاقات وثيقة مع أبوظبي والرياض يمنحه نفوذًا ناعمًا لا يمكن تحقيقه بالقوة وحدها.

 

ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في قمة العشرين، أوساكا، 28 يونيو 2019 (أ ف ب)
ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في قمة العشرين، أوساكا، 28 يونيو 2019 (أ ف ب)

 

اقتصاديًا، تسعى دول الخليج إلى تنويع شركائها التجاريين والاستثماريين. فبحسب بيانات وزارة التنمية الاقتصادية الروسية لعام 2024، بلغ حجم التبادل التجاري بين روسيا ودول مجلس التعاون الخليجي نحو 12 مليار دولار، ما يعكس نموًا مطّردًا في مجالات الزراعة والتكنولوجيا والطاقة النظيفة. كما تجاوزت الاستثمارات المتبادلة بين الجانبين 45 مليار دولار، وفق تقارير صندوق الاستثمار الروسي المباشر، في مؤشرٍ على توسّع الشراكات الخليجية–الروسية بعيدًا عن القنوات التقليدية. هذا التوجّه لا يهدف إلى تحقيق الربح فحسب، بل إلى ترسيخ مكانة الخليج كمركز توازنٍ اقتصادي بين الشرق والغرب.

وبرزت الإمارات العربية المتحدة نموذجٍاً في إدارة علاقاتها مع روسيا، من خلال مبادرات جمعت بين الديبلوماسية النشطة والانفتاح الاقتصادي. فقد وقّعت أبوظبي وموسكو اتفاقية تجارة واستثمار في الخدمات في 2024، وافتتحتا مجموعة عمل سياحية في قازان في 2025، كما أدّت الإمارات دورًا ديبلوماسيًا في الوساطة بين روسيا وأوكرانيا، ما عزّز صورتها كقوة توازنٍ تحظى بثقة الطرفين المتنازعين.

 

تقوم المقاربة الخليجية تجاه موسكو على مبدأ الانفتاح المتوازن، الذي يُبقي الباب مفتوحًا أمام التعاون من دون الانحياز السياسي أو الاقتصادي.

 

سياسيًا، تنتهج دول الخليج سياسة الحياد الهادئ تجاه الصراعات الدولية، ما مكّنها من أن تصبح منصة حوارٍ بين الأقطاب بدلًا من أن تكون طرفًا فيها. هذه الديبلوماسية النشطة تعكس نضجًا في فهم موقع الخليج على الخريطة الجيوسياسية الجديدة، حيث لم تعد القوة تُقاس بالتحالفات الصلبة بقدر ما تُقاس بقدرة الدولة على بناء شبكة علاقات مرنة ومتوازنة.

في المحصلة، تُدرك دول الخليج أن علاقاتها بروسيا ليست تحالفًا عابرًا، إنما شراكة عقلانية تُبنى على المصالح المشتركة. وبينما تبحث موسكو عن شركاء جدد في الشرق، تسعى العواصم الخليجية إلى تعزيز موقعها كقوة وسط في عالمٍ يميل نحو التعددية القطبية. إنها صيغة توازنٍ دقيقة تمزج بين الطموح والانضباط، وتُظهر أن الحياد لم يعُد موقفًا سلبيًا، بل أداة فاعلة لصون السيادة وتحقيق المصالح في آنٍ واحد.

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 10/23/2025 5:18:00 PM
المدوّن الإسرائيلي: يجب أن أريكم كيف تبدو سوريا في عام 2025
سياسة 10/23/2025 8:30:00 PM
اعتداء إسرائيلي جديد على جنوب لبنان...
اقتصاد وأعمال 10/22/2025 3:51:00 PM
لا يمكن اعتبار هذا التراجع "انهيارًا" أو حتى "تصحيحًا"، نظرًا لارتفاع الأسعار الكبير. لا تزال المعادن تحقق أرباحًا جيدة هذا العام، حتى بعد التراجعات الأخيرة
لبنان 10/23/2025 12:59:00 PM
غارات إسرائيلية عنيفة تستهدف منطقة البقاع