سباق مبكر على أصوات بغداد... خروقات ممنهجة تقوّض نزاهة الانتخابات

لم تعد الخروقات الانتخابية التي تشهدها الساحة السياسية في العراق مجرد تجاوزات فردية، بل أصبحت نمطاً ممنهجاً يعكس خللاً في موازين القوى المتنافسة. ومع استمرار هذه الممارسات، تبرز حاجة ملحّة إلى تعديل القانون الانتخابي وتعليماته التنفيذية، لسدّ الثغرات المرتبطة بالدعاية عبر الإنترنت والخدمات الاجتماعية.
حملات دعائية مبكرة
أطلق معظم المرشحين حملاتهم الدعائية مبكراً، قبل انتهاء مفوضية الانتخابات من فحص سيرهم الذاتية والمصادقة على أسمائهم، وذلك من خلال لقاءات جماهيرية، وإعلانات على مواقع التواصل الاجتماعي، وتأجير مكاتب في المناطق السكنية الفقيرة والمتوسطة لتلقي شكاوى المواطنين وطلباتهم، إلى جانب نشر وكلاء انتخابيين في دوائرهم لجمع نسخ إلكترونية من البطاقات البايومترية مقابل 100 ألف دينار عراقي (نحو 80 دولاراً أميركياً)، تُدفع يوم الاقتراع أو حسب الاتفاق، بحسب شهادات مواطنين من بغداد.
كذلك، أطلق بعض المرشحين، من مسؤولين تشريعيين أو تنفيذيين، حملات لتأهيل الشوارع، ونصب محولات كهربائية في مناطق محرومة، وتوزيع سلال غذائية على الفقراء وغير ذلك من الخدمات.
ثغرات في القانون
يرى الباحث المختص بالشأن الانتخابي دريد توفيق أن جذور ظاهرة شراء الأصوات تعود إلى ثغرات في القانون الانتخابي، موضحاً أن "القانون لم يتضمّن ضوابط واضحة تتعلق بالدعاية الانتخابية أو بسقوف الإنفاق، ما ترك حرية مالية واسعة للمرشح في كيفية الصرف"، مشيراً إلى أن "هذه الحرية انعكست عملياً في آليات شراء الأصوات".
ويضيف توفيق، في حديث إلى "النهار"، أن "توثيق عمليات الشراء بالغ الصعوبة، إذ تتم غالباً عبر وسطاء يتواصلون مع الناخبين مباشرةً، ويكون الاتفاق في النهاية شخصياً بين الناخب والوكيل، وهو صوت مقابل مبلغ مالي. ومن الصعب جداً ضبط هذه الحالات أو إثباتها قانونياً، إلا في حال التلبّس، وهو أمر شبه مستحيل".
ويشدّد توفيق على أن مكافحة هذه الظاهرة لا يمكن أن تتم بالقانون وحده، بل من خلال تثقيف المجتمع، قائلاً: "بيع الصوت يضرّ الناخب قبل المرشح، لأنه ينتج طبقة سياسية لا تعبّر عن مصالح الناس. الحل يبدأ من وعي المجتمع، فنجاح الانتخابات ليس مسألة مؤسساتية فقط، بل عملية اجتماعية بامتياز، ينجحها وعي الناخب أو يُفشلها".
عروض انتخابية مغرية
أسامة التميمي، وهو موظف حكومي، يؤكد لـ"النهار" أنه تلقّى عروضاً مختلفة من وكلاء مرشحين مقابل صوته، قائلاً: "أحدهم طلب مني أن أكون قائداً انتخابياً (مروّجاً) في منطقتي مقابل راتب شهري يصل إلى 400 دولار، وآخر اكتفى بطلب نسخة من بطاقتي الانتخابية والتصويت لمرشحه مقابل 100 ألف دينار عن كل بطاقة تخصّ أفراد عائلتي".
فيما يذكر مرتضى عزيز، المقيم في المناطق الزراعية شرقي بغداد، أن أحد المرشحين جاء إلى منطقتهم عبر أحد الوجهاء، وعرض عليهم نصب محولات كهربائية وتعبيد الشوارع مقابل التصويت له في الانتخابات المقبلة.
خطة ممنهجة
ويشرح أحد وكلاء المرشحين لـ"النهار" عن عملية شراء الأصوات، قائلاً إن "الخطة تبدأ بالتعاقد مع أشخاص فاعلين في الأحياء السكنية لمدة ثلاثة أشهر، عبر تثبيتهم كمراقبي كيانات انتخابية في يوم الاقتراع، مقابل راتب شهري يصل إلى 500 ألف دينار".
ويضيف، طالباً حجب اسمه، أن "مهمة هؤلاء القادة هي بناء ركائز انتخابية، أي أشخاص تكون مهمتهم جمع ما لا يقل عن 20 بطاقة انتخابية، مقابل مكافأة شهرية تبلغ 200 ألف دينار. كما يُسمح لكل قائد بانتقاء أربع ركائز إضافية يشرف على عملهم في شراء الأصوات".
#واحد_بغداد: المعركة الكبرى
أشعل وسم #واحد_بغداد التنافس بين المرشحين، في إشارة إلى نزول قيادات سياسية بارزة على رأس قوائمهم الانتخابية في العاصمة، من بينهم: محمد شياع السوداني (تحالف الإعمار والتنمية)، نوري المالكي (ائتلاف دولة القانون)، هادي العامري (منظمة بدر)، محمد الحلبوسي (حزب تقدم)، محسن المندلاوي (تحالف الأساس)، نعيم العبودي (قائمة "صادقون")، ومحمود المشهداني (تحالف السيادة والمبادرة) وغيرهم.
وتضمّ بغداد دائرة انتخابية واحدة تُخصص لها 69 مقعداً، ما يجعلها مركز التنافس الأهم بين المكوّنات.
وتعزز هذه الصيغة، تحت عنوان #واحد_بغداد، هيمنة القوائم الكبرى والمتنفذة، وتُضعف فرص المستقلين والقوائم الصغيرة، التي تفتقر إلى التمويل الإعلامي والمادي. وهو ما يؤدي إلى استحواذ القوى النافذة على المناطق المختلطة ومناطق المكونات الصغيرة.
الخروقات... القاعدة لا الاستثناء
تقول شبكة "عين" لمراقبة الانتخابات، في أحد تقاريرها، إن "الخروقات المبكرة أصبحت القاعدة لا الاستثناء، إذ يبدأ بعض المرشحين حملاتهم قبل أشهر من إعلان المفوضية، مستخدمين صورهم ورموزهم الانتخابية في لوحات ضخمة أو منشورات إلكترونية"، مضيفة أن "غياب الردع الجدي يدفع الأحزاب الكبيرة إلى استباق الحملات الدعائية، مستغلة المال السياسي والخدمات، بينما يلتزم المرشحون المستقلون بالقوانين خوفاً من الاستبعاد، ما يخلق بيئة تنافس غير عادلة".