سمنة في سوريا ستحرمكم النوم... "النهار" تبحث عن سوق المخدرات والحبة بخسة واحدة



أعدت في الفترة الفائتة منظمة "مد غلوبال" وهي منظمة دولية انسانية غير حكومية دراسة ميدانية بعنوان: "تحت السطح: عقد من الصراع وانتشار تعاطي المخدرات داخل سوريا"، تتحدث من خلالها عن فروق نسبة انتشار وتعاطي المخدرات بين سكان مناطق الحكومة السورية قبل الحرب وبعدها. وخلصت الدراسة إلى أنّ نسبة تعاطي المخدرات ارتفعت في سوريا بشكل مهول بين 2011 و2024.
وكذلك بأنّه بات يقدر عدد المتعاطين في مناطق الحكومة بـ840 ألف شخص أي قرابة (9% من مجمل السكان)، مما يجعل سوريا في طليعة الدول العربية في تعاطي المخدرات، بحسب المنظمة.
وأضافت المنظمة في تقريرها أنّ 50% من السوريين يعرفون شخصا واحدا على الأقل يتعاطى المخدرات، مع تفاوت بين المناطق، في حين أنّ أكثر المواد انتشارا هي الحشيش (66%)، الترامادول (64%)، والكبتاغون (56%).
الكبتاغون أولا... اطلب تحصل
المعلومات الميدانية التي توفرت لـ "النهار" خلال بحثها في خلفيات الموضوع، أكدت مجمل معطيات التقرير الدولي، باستثناء المعلومة التي تناولت نسب التعاطي والتي وضعت الكبتاغون في المرتبة الأخيرة، حيث تبيّن من السؤال والبحث والمعاينة أنّه يحلّ أولاً دون منافسٍ أو منازعٍ بنسبٍ عملياتية قد تتخطى الـ 70 بالمئة لدى المتعاطين عموماً.
رواج المخدرات بين الأشخاص العاديين ومن بينهم من يشغلون مهناً مهمةً اجتماعية لم يعد أمراً خافياً على أحد وأيضاً فإنّ الحديث عن تسيّد سوريا عربياً لنسب تعاطي المخدرات خارج السياق الإجرامي المتعارف عليه لم يعد سرّاً، بل تحول لإدمان منتشر بين الطلبة وأشخاص من مختلف الشرائح الاجتماعية كبرت أم صغرت.
ولم يعد غريباً أو حتى صعباً إيجاد محامٍ أو مهندس أو طبيب أو طالب أو شخص عادي يتعاطى حبوب الكبتاغون لأسباب متعددة، كحال من سيجيئ على ذكرهم هذا التحقيق ولو كان أحياناً بأسماء مستعارة لضرورات قانونية تخصهم ومجتمعية كذلك.
حبوب كبتاغون في سوريا (النهار)
الحصول على المخدرات لم يعد بالأمر الصعب اليوم، بخاصةً إذا ما علمنا أنّ سوريا تحوّلت لبلد إنتاج. فمعلومات خاصة ومؤكدة لـ "النهار" تفيد بوجود معامل مصغّرة عبارة عن "مكابس" لصناعة تلك الحبوب، وأبرز تلك المكابس تتركز في مدن رئيسية مع أريافها، هذا عدا عن الكبتاغون المارِّ من الأراضي السورية والمقتطع بجزء كبير منه لصالح الناقل والمستهلك معاً.
ولم يعد عيباً أو غريباً أو صادماً أن يطلب الشخص تلك الحبوب في أيّ لحظةٍ ومن أي شخص ولو كان لا يملكها، ولكنّه بنسبة مرتفعة سيدلل على من يملكها ويبيعها، وفي الإطار فإنّ سلطات وزارة الداخلية دائماً ما تنشر عن قيامها بمصادرة كميات من تلك الحبوب، لكنّها لم تقل في أيّ مرة إنّها داهمت مصنعاً ولو صغيراً.
يقول طالب مدرسي في سياق حديثه مع "النهار" إنّ ثانويته ورفاقه قائمة على تلك الحبوب، وإنّهم يحصلون عليها بسهولة عبر زيارة شخص يبيعها علانيةً في أحد أحياء حمص، الحيّ الذي لا تقتحمه السلطات لحسابات معقّدة.
ويضيف: "البحث عن محل لشراء الخضار عصراً أصعب من الحصول على الكبتاغون، إنّها متوفرة بكثرة وشدّة، لو أردت يمكنني أن أدلك على عشرين مصدر، وبإمكانك الشراء بشكل مباشر، المهم ألّا تثير الريبة وتكثر من الأسئلة، فقط قدّم طلبك وقل ما تريد وانتظر الحصول عليه".
محام ومهندس يرويان ادمانهما
علي اسم مستعار لمحامٍ في حمص، يوضح إنّه مضطر لتعاطي تلك المادة ليؤمن لنفسه ساعات طويلة من اليقظة في ظلّ كثافة مصنفات الدعاوى التي يتعامل معها من جهة، ولتعينه على التركيز أكثر والاستيعاب وتمنحه الحماسة والرغبة المطلوبة في ذاك النوع من الأعمال الفكرية الشاقة.
يقول علي: "حبوب الكبتاغون شيء سحري تماماً وقادم من عالم مختلف، لم يكن مشهوراً ومنتشراً لدينا سابقاً، ولكنّه بات الآن متوافراً لدرجة اعتقد انّه سيباع على البسطات قريباً، وسلامي للسلطات ومصطلح نحن دولة عبور لا دولة استيطان، لا يا سيدي، نحن دولة تعمق الاستيطان فيها لدرجة أني أدخل القصر العدلي ناسياً في بعض الأحيان بضعة حبوب في جيبي أو حقيبتي ولا أحد يلاحظ".
حبوب كبتاغون في سوريا (النهار)
يروي علي قصة يصفها بالمضحكة، بأنّه في إحدى المرّات خلال انتظار دوره في قاعة المحكمة كاد يغفو، فأخذ إذن القاضي للذهاب إلى الحمام خمس دقائق، فأذن له الأخير. لكنّ الحقيقة انّ علي كان يريد الذهاب لتناول الحبة السحرية ومن ثم –على حدّ وصفه-عاد كـ "أسدٍ" لقاعة المحكمة وكسب القضية بكلّ سهولة ويقظة وتنبه لأدق التفاصيل.
منير. ش اسم مستعار لشخص آخر يعمل مهندساً إنشائياً ويتعاطى حبوب الكبتاغون بكثرة كما يقول، إضافةً لهدفه بالسهر اليقظ وإنجاز الأعمال فهو يملك سبباً آخر يتحدث عنه.
وحول ذلك السبب يشرح: "أنا أشرب الكثير من الكحول، وبضع كؤوس تؤدي للسكر وضياع العمل، حين تعرفت على المخدرات تلك عن طريق أصدقائي علمت أنّها تمنع حصول حالة سكر مبكّرة، حيث يصير عليك أن تشرب أضعافاً مضاعفة لتسكر، أو ببساطة أن تلقي الحبة أو الحبتين في القنينة وينتهي الأمر، تشرب ولا تسكر ببساطة، أنا شخصياً غالباً ما أشرب أكثر من عبوة بيرة واستمتع بمذاقها دون تأثيرات الكحول فيها بسبب الكبتاغون الذي اتناوله معها أو قبلها".
إرادة
مع مطلع العام الدراسي في أيلول/سبتمبر الفائت ضبطت والدة أحد الطلبة الثانويين في جيوب ملابسه حبوباً بيضاء اللون، فوراً أخذتها وذهبت إلى الصيدلية ليخبرها الصيدلاني أنّها حبوب مخدرة من نوع كبتاغون شديد التأثير (ذي الهلالين).
على الفور عادت الأم للمنزل لتخبر الأب الذي انهال بالضرب والتوبيخ على ولده الذي اعترف أنّها يتعاطاها منذ العام الماضي بقصد السهر والدراسة والتركيز وبأنّه يحصل عليها من صديق لها بسعر بسيط ويكاد يكون رمزياً، وبالفعل فهذه المخدرات زهيدة الثمن لذا اجتاحت الشارع السوري بهذه السرعة.
مرّة ثانية ضبط الوالدان حبوباً مع ابنهما وتلقيا نصيحةً بعرضه على أخصائي نفسي وهذا ما حصل، الأخصائية كانت ريم هولا في طرطوس حيث جرت القصة، وحيث تولت ريم معاينة الفتى والشروع بعلاجه سلوكياً ومعرفياً.
"النهار" تواصلت مع الأخصائية التي قالت: "نسبة نجاح العلاج قد تصل إلى 100 بالمئة ولكن ذلك أولا وأخيراً يرتبط بقدرة وإرادة المدمن، واختيار الأخصائي المؤهل لذلك تماماً والمعروف عنه قدرته، حيث يعتبر الكبتاغون منشط قوي للأمفيتامين يشيع استخدامه من قبل متعاطي المخدرات في سوريا، ولديه آثار سلبية خطيرة على المستخدمين بما في ذلك الإدمان والهلوسة والعدوانية والذهان والميول للانتحار".
وتضيف: "هناك ثلاث مراحل رئيسية للعلاج، أولها إزالة السموم من الدم وفي هذه المرحلة يتعب المريض جداً ونحتاج استشارة طبية نفسية لأنّه يكون دخل مرحلة الإدمان التي تولد عذاب الانسحاب، يُعد العلاج بالأدوية (MAT) أحد أكثر العلاجات فعالية لإدمان الكبتاغون، ويتضمن هذا العلاج استخدام الأدوية لتقليل شدة أعراض الانسحاب والرغبة الشديدة في تناول الكبتاغون والتي يمكن أن تساعد الأفراد على تجنب الانتكاس، وتشمل الأدوية الشائعة المستخدمة في MAT الميثادون والنالتريكسون .أما ثانيها فهو التأهيل النفسي والسلوكي القويم في تعليم المريض الإيجابيات، وثالثها تجنب الانتكاس، وهي مرحلة هامة جداً ودونها يسقط بروتوكول العلاج تماماً".
حبوب كبتاغون في سوريا (النهار)
حبوب الترامادول في سوريا (النهار)
الأخصائية ريم عالجت مسبقاً عدداً من الحالات ولكن توضح أنّها فشلت في علاج حالات أخرى لأنّها كما أشارت بأنّ الأمر يعتمد أولاً وقبل كل شيء على رغبة المريض بالتعافي، وفي هذا الصدد تقول: "لا توجد قوّة في الكون تعالج الإدمان ما لم ينطلق المرء من رغبته، وفي مجتمعنا يرفض الجميع تقريباً تحويلهم لمصحّة نفسية لعلاج الإدمان أو الاعتياد، وهذا ما يصعّب مهامنا".
وتضيف: "يمكنني اطلاعكم على ملفٍ لمريض تعافى كان طالب ثانوية عامة وقد لحق رفاق السوء وأدمن المخدرات من نوع كبتاغون وحشيش ومرجوانا وكبتاغون وقد عملت معه على مدار عام وشهرين بالتمام والكمال حتى وصلنا إلى لفظ السم من جسده وتقويم سلوكه وتخليصه من الأوهام، والحمد لله أننا لحقناه قبل تلف دماغه، ويمكنني إيصالكم به مباشرة".
بالفعل تولّت الأخصائية مهمة إيصالنا بالطالب المعافى، والذي بات الآن في السنة الخامسة من الهندسة الميكانيكية، ما يوضح أنّ تعاطي هذه المخدرات في سوريا ليس وليد أمس، فحالة هذا الشاب قد مرّ عليها على الأقل ست سنوات، وقد كانت وقتذاك أياماً عجاف.
يقول الشاب زهير صلاح في حديث مختصر: "كان الأمر عبر رفاق السوء، وحين بدأت أعاني هلاوس سمعية بصرية صرت أقرأ عن تأثير تلك المخدرات فاتخذت قراراً بالعلاج، وكانت الأشهر الست الأولى قاتلة، حتى أني تعاطيت فيها سرّاً عدّة مرّات قبل أن أثقف نسي وتساعدني الأخصائية كثيراً، لدرجة أنّه مرّت أشهر كنا ننفذ 4 جلسات أسبوعية، أو خمسة، حتى امتثلت للشفاء التام وعن قناعة تامة، واليوم أحاول منع أي شاب من تناول هذه السموم القاهرة".
"سمنة ستحرمكم النوم"
حاولت "النهار" الحصول على تلك المخدرات وتوقّع أنّه سيواجه صعوباتٍ جمّة في هذا السياق، ولكن يبدو فعلياً أنّ 50 بالمئة من السوريين يعرفون شخصاً يبيع المادة، إذ لم يكلف الأمر سؤال أكثر من اثنين من المعارف حتى تم تأمين أول 20 حبة من النوع الأفخم، فالكبتاغون كثير مصادر الإنتاج والأنواع، وكان ثمن الحبة دولار واحد، أي عشرين دولار لعشرين حبة، من نوع (ذات الهلالين).
أحدُ هذين الشخصين دلّنا على موزع للمادة، جرى التواصل معه بشكل مرمّز كما طلب منّا الدليل، فكان الحديث: "مرحباً، أريد 50 فرشاة أسنان أمُّ هلالات من النوع الثقيل"، وكان الجواب: "الفرشاة الواحدة بخسةٍ واحدة (دولار واحد)". وحين موافقتنا طلب مكان تواجدنا لإيصالها على أن ننتظر هاتفاً آخر منه، ثم أرسلها مع شخص سيراً على الأقدام دون أن يبدو كلاهما آبها بمغبة الجرم قانوناً، وجرى ذلك في مدينة جرمانا في ريف دمشق.
الخطوة الثانية كانت الحصول على النوع الرديء والذي ثمنه ثلث دولار، وهنا تمكنت "النهار" من الحصول على 50 حبة دفعة واحدة بثمن يقلّ عن عشرين دولار بقليل، وذلك عبر وسيط في حي الزاهرة في دمشق إذ جاء يحملهم على دراجة نارية غير آبه بأي إجراءات معينة، وبناء على اتصال من أحد المعارف لا أكثر، والوقت لم يتخطى نصف ساعة.
الخطوة الثالثة كانت التواصل المباشر مع (البائع) الذي قال فورا: "حادثني واتس آب"، وكان له ما أراد بعد أن سأل من المتصل ومن طرف من. وحين اطمئن أرشدنا لمحل يبيع مواداً تموينية تخضع لقوانين السوق السوداء في ريف دمشق، وهناك تمّت العملية خلال ثوانٍ، وبسعر الحبّة "المدعوم" خلافاً لبقية ما لديه، كما حظيت "النهار" بإمكانية شراء ترامادول وحشيش بأسعار مخفضة أيضاً.
دخلت "النهار" المحل الصغير وسلّمت على صاحبه قائلة: "نحن من طرف فلان ونبحث عن (سمنة) تساعدنا على سهر الليالي"، فقال: "لديّ سمنة ستحرمكم النوم، وكانت السمنة (حبوباً)، وبالفعل هي تحرم نوم الليالي". وفي سوريا هناك ترميز آخر لتلك الحبوب، إذ يقال عنها "يا مسهرني الليل".
باختصار تتراوح أسعار حبوب الكبتاغون بين ثلث دولار ودولار واحد، بحسب نوعها وآلية تصنيعها، وتخضع في بيعها لشبكات مؤلفة من الموزع الرئيسي صاحب المصنع أي "المكبس الصغير"، مروراً بالـ"ديلر" فالبائع الصغير ومن ثمّ المستهلك.
وفقاً للهيئة العامة للغذاء والدواء، فإنّ الكبتاغون يؤدي إلى أعراض اضطرابات في المخ مثل التشنج وتلف خلاياه، ونقص كريات الدم البيضاء والأنيميا، وفقدان الاتزان والحكم الصحيح على الأمور، والإصابة بالهلوسة السمعية والبصرية، وكذلك الإصابة بالإدمان، إضافة لأعراض أخرى كثيرة.
الكبتاغون هو الفينيثايلين أحد مشتقات مادتي الأمفيتامين والتيوفيلين وهو مادة كيميائية مُنشِّطة، كانت تُستخدَم -قديمًا-مُنشِّطًا تحت مسميات: كبتاغون وبيوكابتون وفيتون اعتباراً من عام 1919 حين اختراعه على يد العالم الياباني "أوكاتا".
كذلك يعتبر الترامادول واحداً من الأدوية المدرجة ضمن "الجدول الطبي" أي المواد المخدرة، ويسمح ببيعها في الصيدليات، وسعرها إذا كانت من المنتج المحلي حوالي نصف دولار للعبوة المكونة من ظرفين كل ظرف فيه عشر حبوب.
ولكن صيدليات كثيرة تحجم عن بيعه بسبب المشاكل التي يسببها المدمنون لهم والذين يريدونها بالقوة أحياناً أو حين يكونون تحت تأثير السكر والمخدرات، وهي التي يجب ألّا تصرف إلّا بموجب وصفة طبية ممهورة بختم طبي معتمد.
وتجدر الإشارة أنّ الترامادول الوطني لم يعد مرغوباً كثيراً في الآونة الأخيرة لضعف جودته وفعاليته، في حين جرى التوجه للأجنبي القادم من لبنان والذي تعادل سعر العبوة منه 20 دولاراً، وعدم الرغبة به تنطلق من ضعف تركيز الأدوية السورية عموماً بسبب انعدام القدرة على تأمين المعامل للمواد الأولية جديرة الفعالية. ورغم ذلك يظلّ الترامادول سيّداً في أذهان المتعاطين لفعاليته حين يكون جيّداً، وبالتأكيد يؤدي لإدمان شديد.
واتضح لـ"النهار" وفق مجموعة أدلّة قاطعة أنّ المادة صارت متوافرة أكثر من أن يتمكن أحدٌ من إخفائها، وهذا على صعيد الداخل السوري وتعاملات السوريين العاديين فيما بينهم، والخلاصة أنّ السوري كلّ ما عليه أن يفعل هو أن يطلب تلك المخدرات دون أن يستحي لحظةً واحدة، فبعد قليل ستصير للجميع وسيتعاطاها الجميع إذا استمر هذا الانفلات.