الأربعاء - 08 أيار 2024

إعلان

هل تدفن فكرة المارونية الوطنية مع البطريرك صفير؟

غسان صليبي
هل تدفن فكرة المارونية الوطنية مع البطريرك صفير؟
هل تدفن فكرة المارونية الوطنية مع البطريرك صفير؟
A+ A-

أسست المارونية الوطنية بقيادة البطريرك الياس الحويك للبنان الكبير. وقامت على أساس التعايش بين الطوائف والاستقلال عن الشرق والغرب.

بعد الاستقلال واعتماد دستور يعطي الموارنة امتيازات في الحكم، نشأت المارونية السياسية وتطورت على حساب المارونية الوطنية، باستثناء الفترة الشهابية.

تميزت مرحلة ما بعد الاستقلال ببناء دولة المؤسسات، التي جرى تطويرها وتحديثها خلال حكم الرئيس فؤاد شهاب، وتحويلها من دولة ليبيرالية إلى دولة تعمل لبناء العدالة الاجتماعية، بين الطبقات الاجتماعية والطوائف. سقطت الشهابية بضربات متلاحقة من الإقطاع السياسي والمارونية السياسية، ومهد سقوطها لاندلاع الحرب في لبنان.

خلال الحرب انهارت الدولة ومعها المارونية السياسية وحلّت مكانها المارونية المذهبية المقاتلة.

بعد الطائف وهزيمة المارونية المذهبية المقاتلة، أصبح هناك موارنة ولم يعد هناك مارونية بالمعنى السياسي.

بعد مقتل الرئيس رفيق الحريري، عادت المارونية المذهبية، لكنها تحولت إلى مارونية مستتبعة للصراع بين السنية السياسية والشيعية السياسية في البلد والمنطقة..

في المقابل أعاد البطريرك نصرالله بطرس صفير إحياء فكرة المارونية الوطنية المنادية بالوحدة الوطنية وبالسيادة والاستقلال، وذلك بالتعاون مع قيادات مارونية انضوت تحت ما سمي بـ"لقاء قرنة شهوان". وقد ساهم ذلك، وبالتحالف مع القوى السنية والدرزية الأساسية، في خروج الجيش السوري من لبنان، وتحقيق ما سمّي بـ"استقلال لبنان الثاني".

لكن الإنتخابات النيابية المتتابعة، وبالتزامن مع تفكك تحالف 14 آذار بفعل سياسات أطرافه وأحداث محلية وإقليمية عنيفة، وإستقالة البطريرك صفير لاحقاً، قضت جميعها تقريباً، على فكرة المارونية الوطنية لصالح المارونية المذهبية المتعددة الرؤوس والمدعومة إما من السنية السياسية وإما من الشيعية السياسية.

هل من أمل في إعادة إحياء فكرة المارونية الوطنية؟

الأمل ضعيف جداً. فالمارونية الوطنية نشأت في ظل تطورات ديموغرافية واقتصادية وجغرافية وسياسية عرفتها الطائفة المارونية قبيل الإعلان عن لبنان الكبير، وفي ظروف إقليمية ودولية ملائمة. وكان لبنان الكبير المستقل والجامع لكل طوائفه، استجابة وطنية لمصلحة مارونية سياسية واقتصادية في ذلك الوقت.

انكفأت اليوم، هذه التطورات ومعظم هذه العوامل الداخلية والخارجية، وحلّت مكانها ظروف شبه نقيضة.

وبعد، هل يمكن اليوم قيام مارونية وطنية في وقت تنمو فيه وتتصارع المذهبيات المارونية والسنّية والشيعية والدرزية، وفي ظل ظرف إقليمي عماده الصراع السنّي الشيعي؟

حتى إن وطنية البطريرك صفير اصطدمت بمارونيتها، عندما اعترض على قرار 14 آذار الزحف إلى قصر بعبدا لإسقاط الرئيس إميل لحود الماروني والموالي للنظام السوري. كأن الوطنية لا يمكن أن تكتمل في ظل النظام الطائفي.

لكن الأصح ربما القول، وإنصافاً للبطريرك صفير، أنه تمسك بقواعد النظام القائم والمتفق عليه بين المسلمين والمسيحيين، أكثر مما تمسك بمارونية الرئاسة. فهو لم يمانع مثلاً في إزاحة العماد ميشال عون الماروني من قصر بعبدا، حتى بالقوة، لصالح الشرعية الجديدة الممثلة بالرئيس رينه معوض والتي حظيت بتوافق إسلامي مسيحي في الطائف. كما أنه لم يتردد قبله، في مواجهة التسلط الماروني عندما حاول العماد عون الإستئثار بالسلطة في ما كان يسمّى بـ"المنطقة الشرقية".

ولا ننسى رفضه مراففة البابا إلى سوريا، واضعاً لبنانيته قبل كاثولكيته.

إن لبنانية البطريرك لم تكن أقل أهمية من مارونيته، وهو حاول دائماً التوفيق بينهما. ولعل ما قاله الرئيس نبيه بري في رثاء البطريرك، يعكس تماماً طغيان لبنانيته. فهو لم يصف عن عبث، البطريرك صفير بـ"كثير اللبنان". فكأني به وهو يمدحه، يعاتبه أيضاً "مستكتراً" ومستغرباً في واقع لبنان الحالي، هذه "الكثرة" في لبنانية البطريرك. فكيف يتعايش "كثير اللبنان" مع "كثيري المذهبية المستتبعين للخارج"؟

الرئيس بري، كركن أساسي من أركان النظام الطائفي، ولكن كمنتقد دائم له، يعرف تماماً تركيبة هذا النظام ومدى صلابته ومناعته.

لقد كان البطريرك صفير مارونياً ولبنانياً، لكنه كان قبل كل شيء ومن موقعه، مسيحياً.

لا تعطى عادة "مسيحية" البطريرك دوراً في تفسير سلوكياته، بل يفضل المحللون الكلام عن الدور التاريخي للبطريركية المارونية أو عن شخصية صفير. على أهمية هذه العوامل وغيرها، لا يمكن فهم مواقف رأس الكنيسة المارونية وسلوكياته بمعزل عن العقيدة المسيحية. مع معرفتي التامة أن تاريخ هذه الكنيسة كما تاريخ الكنائس في العالم، يعج بمواقف وسلوكيات مناقضة تماماً لتعاليم يسوع.

فمن حيث المبدأ، لا أعتقد أن المسيحي الحقيقي يستطيع أن يفصل بين مارونيته ولبنانيته أو وطنيته. فالوطنية هي معبر من التقوقع المذهبي إلى رحاب الإنسانية الأوسع التي لا تميز بين إنسان وآخر. وحب الإنسانية جمعاء واحترام الإنسان بغض النظر عن انتمائه، هما في جوهر تعاليم يسوع.

لا أستطيع أن أفهم شجاعة البطريرك ومواقفه الحازمة وابتسامته الزاهدة وهو يرد على خصومه، من دون أن أرى فيها تجسيداً لتعاليم معلمه يسوع الذي قال له "فلتكن كلمتك نعم نعم أو لا لا".

وعلى رغم أن المارونية الوطنية قد فقدت رجالاتها وظروفها الموضوعية، إلا أن المارونية لا يمكنها أن تستمر بدون وطنيتها. إلا إذا قررت أن تتخلى عن مسيحيتها، وتصبح مجرد أقلية دينية تبحث عن حماية، إما عبر التقوقع وإما عبر التبعية لقوى داخلية أو خارجية. متناسية أن يسوع واجه هو واتباعه، وعندما كانوا بعد أقلية، السلطة الزمنية والدينية عند شعبه اليهودي، وكذلك سلطة المحتل الروماني.

عندما أحكم النظام السوري سيطرته على لبنان بعد اتفاق الطائف، كان "الصمت الوطني" سيد الموقف، باستثناء العظة التي كان يلقيها البطريرك صفير من بكركي كل أحد، ويحدد فيها مواقفه الوطنية المتمسكة بالحرية والسيادة والاستقلال.

كنت في تلك الفترة ألتقي ببعض الأصدقاء المسلمين ونتداول بالشأن الوطني. وكان دائماً محور حديثنا، وعلى غير عادتنا نحن العلمانيين، ما قاله البطريرك الأحد الماضي وما يمكن أن يقوله الأحد المقبل.

كنا جميعنا ننتظر ما سيقوله البطريرك.

بعد موته سنفتقد حتى متعة الانتظار.

في الواقع لقد افتقدناها قبل وفاته ومنذ استقالته من منصبه.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم