الأربعاء - 08 أيار 2024

إعلان

"رؤى الانقسام" لمايكل أونداتجي: خبايا الخريطة العاطفية

جينا سلطان
A+ A-

يتبنى الكاتب الكندي مايكل أونداتجي في روايته "رؤى الانقسام" مفهوم نيتشه حول خلاص الإنسانية من دمار الحقيقة بالفن؛ فالحقيقة الخالصة لأي حدث لا تنتهي، بل تمضي في متواليات عاطفية متجددة، متتبعا مذهب الأديبة الفرنسية كوليت حين تعتبر الفضيلة المثلى هي الشك بالذات، مما يسهل القص التداخلي بين الأزمنة والأمكنة، ويتيح اعادة رسم الخريطة العاطفية للشخصيات، بعد ترميم شروخ كينوناتها عبر تعشيقها بنبض الآخر وتوقه لهاجس الاكتمال: في الشغف، الحب، التفهم، الحزن، الألم، تحدي الأقدار وقيودها المصيرية.


شخصية العمل الروائي الأساسية آنّا، تشوهت إثر لحظة عنف أسري، فتبعثرت حياتها واصبحت مخلوقا بمئات الاصوات والطبائع. ظل "الفضاء الأصغر المحتمل الوجود"، هو المكان الوحيد الذي تظهر فيه حقيقتها واضطراب شبابها. تحول هاجس إخفاء الماضي خوفاً من الحميمية الحقيقية، ثم ترجم بنمط اختيار العمل في الارشيفيات، الذي يتيح لها اكتشاف ماضي الأشخاص من دون المرور بماضيها. كان لا بد من ارتحالها إلى اوروبا، حيث كل شيء يلامس التاريخ او الادب، لدراسة حياة الكاتب الفرنسي لوسيان سيغورا، أسوة بتجربة كوليت مع بلزاك التي كتبت عنها: "لقد ولدت في بلزاك، فهو كان مهدي وغايتي وترحالي". هي صيرورة الاكتمال مع الآخر في مرايا الأدب المتشظية.
عنت فرنسا لآنّا، الزمن الهادئ والمجهول، فهربت من محدودية حياتها المهنية في أميركا، واستقرت في منزل لوسيان سيغورا، وبات فضولها بلا هدف كأنها تبدأ حياة جديدة، ثم اتخذت رافايل ابن اللص والغجرية عشيقا لها، كي تتقن اللغة الفرنسية. معه تعرفت إلى خلوة الموسيقى، واوتارها الخفية وكل حكاياتها المخفية، التي صاغت عاطفته كليا. هذا الرجل المكتفي والغارق في فيض الموسيقى، مثّل صخرة الاعتراف لآنا، ومدخلا إلى عالم الاستغراق في حكايا الآخرين وتلمس حضورهم المخفي في حيواتنا، بمن فيهم الذين عرفناهم لفترة قصيرة؛ إذ نحتويهم لبقية حياتنا مع كل حدود نقطعها.
يتحدى أونداتجي انغلاق الفكر الإنساني حين يؤكد حتمية اقتران اكتشاف الذات بغربال الآخر، أي أن الصورة الحقيقية لن تكتسب كثافة الامتلاء الإنساني الكلي، ما لم تمر في رؤى الانقسام. فالأب المفجوع بموت زوجته عقب ولادة لآنا، يتبنى طفلة مجهولة النسب، يسمّيها كلير ويربّيها مع ابنته. لتنشأ الفتاتان في رعاية صبي المزرعة اليتيم كوب، وارث الجريمة المعرض للخطر، الذي وظف مهارته في العالم المادي في مهنة المقامرة ولعب الميسر في حانات مدن الشاطئ، متخذا من اللعب طريقة حياة. بينما كلير تستشعر نبض أسلافها الغامضين بالمخاطرة القصوى فوق صهوة الجواد، مداعِبةً المسافات الشاسعة في داخلها، لتصبح في ما بعد مساعدة المدعي العام للولاية، الذي علمها كيف تحيا في مهنة الجريمة والعقاب، وكيف تقبل الحاجز المغلوط بين السبب والنتيجة، وكيف ترى الحاضر وهو يغيّر الماضي بطريقة متواصلة. هذا التغيير يولد بدوره نمط الشخصيات المتجولة في مدارات التجاذب والتنافر، ويلوّن التجربة الروائية بالحيوية الكبيرة، إذ تتباين الفصول بأشكالها ومساحاتها، فتغدو الأحلام متعاشقة، والأمنيات والمخاوف متشاركة.
تعلمت آنّا من عملها في الأرشيفيات، أن لا شيء أكثر اطمئنانا وإقناعا من القناع. تحته تستطيع أن تعيد كتابة ذاتها في كل مكان وبأيّ شكل. أدركت اننا أحياناً ندخل الفن كي نختبئ في طياته. فهناك نستطيع أن نخلص أنفسنا تحت حماية ضمير الغائب. وهي الصيرورة التي اتبعها لوسيان كي يستمر في معايشة الماضي مع رفيقة صباه ماري نيج، حين ألف سبع روايات عاطفية تشاركا بطولتها، وكان ينتظر حضور طيفها أثناء كتابته. بهذه الطريقة أمضى معظم أيامه معها، وعاش عالمه ومخزونه العاطفي كما أراد، وإلى حد الاشباع. فرجل الأسرار هذا، وصل إلى مرحلة اضطرب فيها بتلك الأسرار التي كان قد أخفاها عن ذاته، ووجد الامان فقط بالماضي، ومع ماري نيج دائما في مكان ما. فكم من القصص قرآها واكتشفا من خلالها شيفرات الحب النهائي ولم يقولا شيئا في خجلهما. كأنهما كانا يعرفان مآل كل تلك الممرات والانعكاسات في ما بينهما، والتواضع الحذر وأسرار ذاتها التي خبأتها عن الآخرين. اما نقدياً فتعزى المعايشة الحُلمية إلى كونه حدسياً ومؤمناً بالتقمص العاطفي، مما أهله لإعادة تشكيل أحداث الماضي وفقا لمشاعره. وهي التقنية العاطفية التي درّب عليها رافايل حين كان طفلاً، إذ اقترح عليه بعفوية المسار الذي ربما سيأخذه خلال حياته. كما علّمه كيف يكون وحيداً ومكتفياً، ومحمياً من كل من يعرفهم، حتى من الذين يحبّهم، وبطريقة غريبة يفهمهم كلياً.
يفترض أونداتجي أن الجوع لما لا نملكه يبقينا معاً. لذلك تبدو اعادة القراءة هي الأهم. فنحن نعيش مع استردادات الطفولة، التي تتجمع ويتردد صداها طوال حياتنا. أي أننا نعيش هواجس اعادة تشكيل قصصنا الخاصة عندما نروي. فمع الذاكرة ومع انعكاس الصدى تتفتح بوابة في اتجاهين، ونستطيع ان نحيط بالزمن دائريا. ويكفي عندئذ مقطع نثري او قصة من عصر اخر لإشغالنا وسكننا في الليل. لذلك تطير بعض الطيور قبيل الظلمة، وهي قريبة من انعكاساتها قدر الامكان. تالياً يحتاج الخلاّق في الأوقات الحرجة إلى أخطار معاينة الحدود القصوى وما وراء الانعكاسات، ليرى كل شيء بوضوح. تلك اللحظة بالذات من تفكيره، يتصدع لوح خشبي تحته، كأنه العظمة الاساسية في الجسد التي تحمي سلامة العقل وتحمي الطريق الى المستقبل. تلك هي لذة احتواء العالم والامحاء فيه ومعه، وهي الطريق إلى كشف الذات عبر الاقتراب من مساحة الآخر الخصوصية خلال طبقات السرية الاجبارية المتعلقة بها. بذلك فقط نعيش الصورة الآفلة بكثافة عالية وفي حاضر منقسم، أي أن رؤى الانقسام تضاعف كثافة الحالة الانسانية، وتخفف من وطأة النهايات المفتوحة.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم