الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

أن تتحوّل الحصارات إلى مواجهة مع الوجود

أحمد ساجت شريف- العراق
أن تتحوّل الحصارات إلى مواجهة مع الوجود
أن تتحوّل الحصارات إلى مواجهة مع الوجود
A+ A-

تنقلنا حنين الصايغ الى عوالمها البعيدة، تمنح عيوننا الدهشة وهي تتسلل بنا الى عمق الإنسان وتحفر ذلك العمق بحثا عن جوهر للمصالحة مع ضجيج العالم وقلقه أو أثارة الاسئلة بوجه قوافل الخراب كمصد تجريبي للمطاولة.. الأسئلة التي تتفاقم وتقلّص أمامنا الخيارات حتى يصبح الهروب ملاذا والشلل حتمية لا بد منها / انا الأمس / أنا اليوم / انا المكرّرة / كل شيء يحاصرني / كل شيء يصيبني بالهروب والشلل / ص55 من نص (محاصرة) هذا الحصار الحاضر في أمس الإنسان ويومه يجبره على تكرار ذاته شعرا او سؤالا مقررا، في النهاية مصيران لا ثالث لهما الهروب أو الشلل. ترصد بذلك الشاعرة هواجس المحاصر وأثر ذلك في حشر الإنسان في قالب الألم وتكراره بشكل لا يدع مجالاً الا لحتف مروّع، سيل الحصارات تلك لا يتوقف عند كشفها كممارسات تقصي الفرد / الشاعر/ بل تصل به حد الانهماك والموت اليومي كاختبار قسري في مواجهة الألم وتجرعه / منهكة أنا... متى سينتهي هذا الاختبار؟؟ / ص 61 من نص ( يسألني البحر ).. ثم تتحدث الشاعرة بنصها ( أعددت للغرق ) ص 62 عن أثر تلك الحصارات في غرق الكائن البعيد بأسئلته وهمومه ووجوده عن نظرات الكائنات اللامبالية، وان ما يحدث معه ليس مصادفة بل هو قدر بالنسبة له / لم يكن للصدفة من دور في عدم قدرتي على العوم../ حتى إنها بعد أن تستنفد كل الخيارات تعود بنا الى رحم الحياة وكأن الكائن / المتفرّد/ يولد ميتا أو يولد ليموت في الظل مستنجدا في آخر صرخاته بركلات تنجّيه من نزق الجرح / الحصار/ الذي يمارس سطوته المعلنة عليه / كم من ركلة في رحم الحياة كان عليّ أن أتلقّى كي أستحقّ موتا يليق بي؟! / ص62 من نفس النص. تحاول هنا تحويل الموت الى قلادة مضيئة للخلاص من تبعات النفي التي تمارسها الوحدة والحصارات والضجيج التي تتلف المصائر وتحيط الإنسان بالعدمية والأقصاء.. كل الاسئلة تكاد تنعدم اجاباتها فتبقى مفتوحة وممتدة بحثا عن جواب يروي عطش الحيرة، ويرمم هذا التصدع الذي يسري في جسد الشاعر حتى يحوله الى علامة استفهام ضخمة أو غيمة تسافر بلا اتجاه معلوم في ظل محنة وجودية يعيشها مرغما نتيجة وعيه في عالم مجنون وذاتٍ مزلزلة تمتهن إثارة الاسئلة وتكرارها، تكرارها على إنسان يطفو على قلق يشبه ( بقعة زيت ) كما استعارتها الشاعرة عنوانا لأحد نصوص الديوان ليتيه في تلك الدوامة بعيدا


/ هل يزحف الكائن نحوها
لينتحر سكونا؟
لا أعلم...
لا أعلم ماذا يحدث في أعماقي! / ص 52 من نص ( بقعة زيت )...
... حتى الجرح يأبى أن يندمل بالدمع أو يخفت ليمنحها النهوض وفكّ أسر الاغتراب بعيدا عن العالم الفجائعي الذي تحياه.. / الجرح لا يدر دمعا.. تأبى عيناه أن تغسل نفسها / ص47 من نص عقد القمح، يبقى مفتوحا يسيل دم القلق بعيون لا تقوى على غسل مجراه بالدمع كسبيل للخلاص...؟ هذ القدر الذي يزخّ ويله مطرا بلا توقف ويعمد الى ممارسة سلطته القهرية على من يعلنون الوقوف بأسئلتهم وهمومهم وهواجسهم وجنونهم يصل الى فتح كل الاحتمالات التي يمكن ممارستها بحق / الكلمة / يصنعها ولكن تنطقها ألسنتهم شعرا أو اغنيات أو مواقف فلسفية هو هنا ( صانع القواميس ) كما تسميه الشاعرة وهي تتحول الى ( كلمة ضالة ) تائهة في تلك القواميس التي تضاعف قلق الإنسان الوجودي وتوصله الى تفكيك نفسه وفقا لاحتمالات القدر (صانع القواميس) في محاولة للخلاص من عقدة النقص التي يمارسها بحقها / من يومها وأنا أفكك نفسي وأجمعها وفق جميع الاحتمالات / ص13 من نص كلمة ضالة.. بعد مرورٍ قاسٍ في جيب صانع القواميس /الحتمي / وتسلق أبجدياته في مناورة منها لسد رمق المعنى الذي ترمي الوصول اليه من أجل الحصول على موقف جدير بالذكرى وإرضاء لهذا الشغف في المواجهة..
وهي مع ذلك تمارس رفضها لتلك السلطة / القدر/ مرة عبر كسر الرتابة وعدم تبنيها كموقف في مواجهاتها المستمرة معه / أرفض أن أتبنى تلك الرتابة السلسة لنغمة الضوضاء.. بي من تواضع الأرق ما يمنعني من أن أطمع في النوم../ ص 20 من نص رتابة سلسلة لنغمة الضوضاء. ثم تمضي لتسأله في ذات اللحظة / لكن أرجوك أن تخبرني.. كيف أُسكت نقيق الضفادع تحت جلدي../ تزهد هنا كثيرا بهذا القدر الذي طوق عنقها مرارا حد الاختناق، لا بل تسعى للاستفهام منه لإسكات الاسئلة (نقيق الضفادع ) وهي تنمو تحت جلدها في محاولة منها لخلق كائنات تشاركها موقفها إزاء الاشياء...
ومرة أخرى عبر عنادها وتنامي عودها في تلك المواجهة مع القدر مستعيرة عناد شجرة التوت التي تمتاز بسرعة نمو اغصانها بعد بترها / لا أتوقف عن النمو... بعناد شجر التوت الذي يبتر مرارا.. ولا يتوقف عن الولادة.../ ص 108 من نص عناد شجرة التوت...
تخاطب حنين غائبا / حاضرا ولّده خيالها لتحفل بشراكة إنسانية لتخاطب من خلالها الكون بعيون مشتركة ولو افتراضا في سيرها نحو ينابيع الشعر وجوهره، فهي تأبى أن تكون وحدتها بصوت واحد.. تبحث ولو مضى بعيدا ولو ارتدّ الصدى متأخرا فيسمع أو يقرأ يوما ما / كيف وانت بعيد سأتمكن من ترميم وجهي المسافر.. في مناقير غربان مهاجرة؟ / ص71 من نص قُبل متحولة..
تحاول الصايغ أن تحاور محيطها وأشياءه بحساسية بالغة تسعى لملامسة جوهر تلك الاشياء وعلاقتها بها، تحاورها بلسان الطبيعة لا بلسانها تحوّل حضوره الخفيّ عمّن حولها الى ضوء تتحسس مواجعها وموتها المشابه، تراه لوحدها شريكا في طريقها الوعر يبلغ بها ذلك حد التصالح كخطوة لتأثيث عالم خاص مختلف ومغاير كما في نصها (نبتة الصبار) ص91 :
/ نبتة الصبار تموت.. في إناء خزفيّ
صغيرة هي
ولكن الصحراء بعيدة
وهي عطشى لحضن الوطن /
أو كما في نصها (طفل الصحراء ) ص92 إذ تقول:
/ من أين آتي بالسلوى لزهرة بريّة
حين يختار العالم أن يقف فوق بتلتها
على قدم واحدة /


قراءة في ديوان "فليكن" للشاعرة حنين الصايغ التي تعمل في تدريس مناهج اللغة الانكليزية في الجامعة الاميركية ببيروت، وصدر لها أخيراً ديوانها الاول عن الدار العربية للعلوم ناشرون.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم