السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

"مبادرات نقديّة" لحكمت الحاج: خريطة طريق لقراءة واقع الشعر والرواية والمسرح والسينما

المصدر: "النهار"
مارلين سعاده
الغلاف.
الغلاف.
A+ A-

في كتابه "مبادرات- نقديات معاصرة"، الصادر عن "مومنت للنشر" في كانون الأول 2021، نجدنا أمام ناقد مخضرم، متمرّس في النقد، متجذّر فيه، ملمٍّ بكلّما يحيط بموضوعاته من دراسات سابقة ومواقف متناقضة، يقف على أرض صلبة، وهو ينظر إلى هدفه بعين ثاقبة واثقة تحيط بكلّ المساحة المتعلّقة بموضوع بحثه، تكشف إيجابيّاتها وسلبيّاتها، وتتوقّف عند كلّ ما قد يهيمن على سمائها من آراء طارئة، فيحلّلها ويستخرج منها الأجوبة الشافية لمن يرغب بالمعرفة.

إنّه الشاعر، والناقد، والصحافي، والكاتب المسرحي والناشر العراقي حكمت الحاج، الذي، منذ البداية، نجده يضع النقاط على الحروف، مسمّيًّا الأشياء بأسمائها، بتسلسل موضوعيٍّ علميٍّ، وتدرُّج بحثيّ، وغنًى معرفيّ، وجمال ومرونة. يشدّك سرده فتجد نفسك أسير عالمه النقديّ الشعريّ التاريخيّ السِّيَريّ الجميل! يهديك قراءة مثقلة بتاريخ اللغة وجواهر المُجلِّين فيها... تصفَّحْتُه شخصيًّا كطفل كبير وجد لعبة أضاعها منذ زمن بعيد، كمعمِّرٍ عاد إلى مقاعد الدراسة... هذا ما طبعه في نفسي فكر حكمت الحاج المحلّق داخل هذا الكتاب.

(حكمت الحاج)

يطالعنا في الصفحة الأولى الإهداء إلى شربل داغر، الذي يصفه بالشاعر العربي اللبناني المعاصر والباحث والناقد والأكاديمي المرموق؛ وقد يطول بنا الأمر قبل أن نصل إلى محطّته البارزة معه من خلال مقال عن "والت ويتمان" يشير فيه إلى كتاب شربل داغر"أنا هو آخر بصحبة ويتمان بودلير رامبو ونيتشه"، مضيئًا على تحليل داغر ورؤيته لدور ويتمان البارز في تطوّر الأشكال الشعريّة وآفاق الشعر الحر، كاشفًا وجهه العربي بعدما خبره "فكرًا وشعرًا وخيالًا وانتباهات."(ص 294). هذا اللقاء بين قطبين نقديّين كبيرين (داغر والحاج) يمنحنا تأشيرة دخول تشدّنا على جناح السرعة لنحلّقَ في الفضاء النقديّ لكتاب يَعِدُ بالكثير.

(شربل داغر)

عالم الشعر

ينطلق الحاج في قراءاته النقديّة من عالم الشعر، معتمدًا المنهج التاريخي الاجتماعي، مشدّدًا على أنّ ما قيل عن ثبات القصيدة على حال واحدة من الجاهليّة حتّى الثورة الشعريّة منتصف القرن، غير صحيح، وإنّما كانت التغييرات تطالها بشكل دائم، إذ "تستجيب إلى روح العصر وتُقدّم مساهمات جمّة فيما يخص إشكاليّات المساءلة والجواب كثنائيّة ذات تحقّق فلسفيّ واجتماعيّ في الحاضنة الحضاريّة الكبرى للأمّة..." (ص 7) وبذلك "فقد كان الشعر العربي يسير متأبّطًا تاريخه باتّجاه التقدُّم نحو العصر ومركزه الحضاري بشكل تتابعيّ منطقيّ" (ص 8)، إلى أن حصل "انحراف" - كما يسمّيه - في نهاية الأربعينيّات، ربطه بالواقع السياسيّ الاجتماعيّ الذي أدّى إلى "كسر" أو "قطع" في المسيرة، ومنعَ حصول أيّ تطوُّر "يمتلك سمة الإيجاب"، بعد ظهور قوى جديدة أجهضت دور الليبراليّة العربيّة تحت شعار "الأصالة والمعاصرة" (ص 9) التي أعطاها صفة "التوفيق والتلفيق بين العرب والغرب"، والتي بدأت -والكلام للحاج طبعًا- مع الفارابي في كتابه "الجمع بين رأيَيْ الحكيمَيْن أفلاطون وأرسطو." (ص 10).

بعد تحديد إطار واقع الشعر العربي يقسم الحاج اتّجاهات هذا الشعر المعاصرة إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأوّل يضمّ أصحاب اليمين الكلاسيكي، أو "السلفيّين" كما وصفهم، وعلى رأسهم الجواهري، معتبرًا أن لا مكان لهم بعد التغيير. ثمّ يضع في القسم الثاني أهل اليسار، أصحاب الرؤية الشكوكيّة، الثوريّين الرافضين لما سبق، رافعين لواء الحداثة من دون أن يعيروا أهمّيّة للتاريخ، على رأسهم أستاذه أنسي الحاج - كما يطيب له تسميته إلى جانب شوقي أبي شقرا وتوفيق صايغ ويوسف الخال- وفي القسم الثالث يُدرج "أهل الوسط"، المحافظين والإصلاحيّين، الذين أطلقوا "شعر التفعيلة"  الذي "يأخذ من اليمين عموديّته وقاموسيّته وبلاغته وجزالته، ومن اليسار قدرة النثر على التركيز، الشكّ، الابتعاد عن القاموس، كسر المألوف... ثم يأتون بالشعر الذي يُصطلح على تسميته... بالشعر العربي الحديث  أو الجديد أو المعاصر" (ص 10) مسمّيًا على رأسهم بشكل بديهيّ بدر شاكر السيّاب، مشيرًا إلى أنّهم يشكّلون الكثرة الغالبة.

في هذا الإطار البحثيّ الجميل يطرح حكمت الحاج إشكاليّته متسائلًا: "أين يمضي بنا الشعر اليوم؟" (ص 11) ليُدخلنا معه في رحلة استكشافيّة عميقة ودقيقة، غير مسطّحة، ولكنّها واضحة المعالم والخطوات، بسيطتُها الكلمة وأُفُقُها المعاني، تتألّق بعصارة آراء أئمّة الشعر والروّاد في عالم الفكر، فتستنير طريقنا بشعاع فكرهم الذي يكشف لنا توظيفُ الحاج له في تحليله، مدى جماله وعمقه وصوابيته وفائدته.

وأرى من الجيّد أن نضيء على أبرز تعريفاته بالشعر، كقوله: "الشعر حقيقيّ أكثر من أي شيء آخر، وحقيقته هذه لا تظهر إلّا في عالم بديل، عالم الهناك، حيث الشاعر يقود مسيرتنا" ، ويضيف: "ليس الوزن وليست القافية هما ما يصنعان القصيدة، بل هي "القولة" المموسقة التي تصنع... والشكل المنظوم هنا ليس شيئًا بذي بال في هذا التصوُّر." (ص 11-12). داعيا بذلك الكون كلّه لإعادة الاعتبار إلى الشاعر الذي "لا يريد سوى أن يعكس صورة هذا الكون الذي قُذف إليه مصادفةً، وذلك عبر كلمات سرّيّة ومبهمة، وأن يجعل هذا الكون حاضرًا في الإنسان نفسه كعالم بديل للعالم "الهنا والآن"، ويعطيه وجودًا جديدًا ذا محتوى إنسانيّ جديد، ومن ثمّ يفرض عليه رؤياه." (ص 12).

لم يكن حكمت الحاج في موقفه ورأيه منظّرًا أو محلّلًا، وإنّما كان واحدًا من أولئك الروّاد الذين عاشوا في ليل بلادهم الحالك، ولم يجدوا أمامهم سوى "اللعب"! مؤكّدًا أنّ لعبهم لم يكن لهوًا، رغم أنّ أدونيس عنون إحدى أعظم قصائده "ألهو مع بلادي"؛  مشيرًا من خلال لقاءات وحوارات جرت بينه وبين رفاق صباه شعراء الحداثة الكبار، إلى المعنى الأبعد للّعب المقصود هنا، قائلًا: "كنّا نلعب بالكلمات والمفاهيم والاتجاهات والحيوات والخزعبلات. كنّا نلعب بحياتنا وكلٌّ على طريقته. كان لكي تكون كاتبًا حقيقيًّا عليك أن تكون لاعبًا في الخيال ولاعبًا في اللغات ولاعبًا باللغة والدلالات والمصائر والخيبات والانكسارات. وأخيرًا وليس آخرًا، لاعبًا بالأجناس الأدبيّة والتصنيفات، كافرًا بها، مجدّدًا إيّاها، متجاوزًا أطرها وقوانينها المستحكمة" فـ"اللعب هو الحرّيّة." (ص 17)

فهل أوضح وأفصح من هذا التحليل الدقيق لواقع الشعر والشاعر؟ ومنه نجده ينتهي إلى خلاصة منطقيّة، لا بدّ لكلّ عارف ومثقّف أن يعيها، حيث يشير إلى أنّه "لا يجب أن نتمأسس داخل الأدب، لا يجب أن نتمأسس داخل الثقافة." (ص 17)

في مرحلة لاحقة، يتوقّف عند الغموض في الشعر فيؤكّد وجود غموض في "ما اصطلحنا على تسميته بالشعر العربي المعاصر." (ص 50) إلّا أنّه يعتبر أنّ أسباب هذا الغموض موضوعيًّة ذاتيّة، كما يعيدها إلى الظروف الاجتماعيّة القاسية التي تعيشها الشعوب العربيّة والتي تسبّبت في إحداث تفاوت كبير في المستويات الاجتماعيّة ومستويات الفهم، فكان بالتالي من الطبيعي وجود "فئة متقدّمة موضوعيًّا على الشرائح الاجتماعيّة الأخرى... طريقة تعبيرها بعيدة عن متناول... الجماهير أو عموم الشعب" (ص 50)" معتبرًا أنّنا بتنا في مرحلة تغييرحقيقيّ لمفهوم الشعر كما ورثناه عن الأسلاف... القدامى والجدد". بحيث لم تعد المسألة شكلانيّة وإنّما تكمن في "السؤال الأساس: ما هو الشعر؟ وما هو معناه؟ هل ما سبق يجب أن يبقى ويُطوَّر أم علينا أن نبتكر نظرةً جديدة؟" (ص 51-52) متوقّفًا عند آراء بعض الشعراء الغربيّين الذين تقصّدوا أن يكونوا غامضين (والاس ستيفنز)، مشيرًا إلى أن ّشعراءنا العرب المحدثين أمثال أدونيس وأنسي الحاج وتوفيق صايغ ويوسف الخال قد احتضنوا هذه الفكرة، ومتوقّفًا عند تعدّد الآراء حولها وتناقضها، ليخلص الى إلقول: "إذا كان الشعر فنّ تغيير العالم لا فنّ تفسير العالم، فالغموض يصبح ظاهرة طبيعيّة في جميع الأنشطة الخلّاقة." (ص 53)

يستقدم حكمت الحاج في مقال متقدّم فكر الشاعر "والاس ستيفنز" انطلاقًا من إشكالية "الذات والآخر" – كما أوضح- ولبيان نقاط التلاقي والتقاطع لديه مع الشعر الجديد في العالم العربي، مشيرًا إلى أنّ "هالة الغموض والشخصيات القريبة البعيدة المتخمة بالمعرفة لا تكاد تفارق الكثير من شعره، وكذلك التسمية الفلسفيّة للمسميّات وكيف يمكن لهذا العالم أن يلتقي بطرق متعدّدة... وبالنسبة لـ"ستيفنز" فإنّ المدينة الفاضلة يتربّع على عرشها ذلك الذي يستطيع أن يقيم العلاقات بين المتضادات والمتناقضات، بين الفكر النظري والمال، بين الفن والحياة، بين الحقيقة الواقعية والمعجزة الغيبية..." (ص 125-126)، ليخلص إلى استنتاج مهمّ وجوهري في فكر "ستيفنز" وهو "أنّ في إمكان الخيال إضفاء معنى على فوضى الواقع، واكتشاف الجمال في الطبيعة ووضع حدّ للتفكير في الموت." (ص 126) ونجده يُدخلنا عمق شعر "ستيفنز" وأهدافه حين يشير إلى "التداخل النصّي" ما بين قصيدته "إمبراطور الآيس كريم" وقصيدة "جون دون" المعنونة "لا تكن متفاخرًا يا موت".

أيضًا يتوقّف الحاج عند دراسة "جان كوهين" البحثيّة لأنواع الشعر، وتعريفه لقصيدة النثر، بقوله: "إنها تلك الكتابة الشعريّة التي تستعمل جانبًا واحدًا من اللغة فقط وهو "المعنى" مهمِلة بذلك الجانب الصوتيّ."

 

الصدق في الشعر وأهمّيّة المقال والخيال لدى "كونيتز"

يخصّص الحاج حيّزًا للحديث عن ملك الشعراء ومستشار مكتبة الكونغرس في أمور الشعر، الشاعر الأميركي "ستانلي كونيتز"، الذي يرى "إنّ كتابة المقال تشبه تمامًا إبداع قصيدة" (ص 203)، موضحًا: "إنّني أصرف وقتًا وعناية مماثلة في مقالة نثريّة كما هو الأمر في كتابة قصيدة". كما ينقل لنا رأيه في حيويّة الخيال- إن صحّ التعبير- حيث يقول: "أعتقد أنّ الخيال يبقى متوهّجًا بينما الجسد يذوي ويهرم ويتآكل. إنّ حياتي التخييليّة ما زالت شابّة ومتوهّجة كما كانت دائمًا، وآمل أن أستمرّ في كتابة الأشعار". (ص 203) وخلافًا للقول الشائع عندنا "أعذبُ الشعر أكذَبُه" يقول "كونيتز": "يجب أن يصمّم الشاعر على الصدق أبدًا لأنّ الكذب خطيئة ضدّ الشعر لا يمكن اغتفارها أبدًا".

 

عالم الرواية

وكما في الشعر كذلك في الرواية، يقدّم لنا حكمت الحاج دراسة وافية يجد فيها كلُّ مهتمٍّ ما يروي غليله وينير طريقه، مستفيدًا من عدد مهمّ من الروايات البارزة كأمثلة حيّة جرى العمل عليها والتعمّق في تحليلها ودراستها لكشف المزيد عن واقع الرواية وأنواع الأصوات فيها وتعدّدها، مفردًا لها عددًا لا بأس به من المقالات؛ ولعلّ أهمّها وأكثرها جمالًا توقّفه عند كيفيّة توظيف "وليم غولدينغ" المفهوم الديني التوراتي القائل بـ "سقوط آدم أبي البشر من الفردوس الأعلى إلى الأرض"، في النسيج الروائي؟ (ص 37...41) وعرضه المثير لتفاصيل ومغازي وأهداف "سلمان رشدي" من روايته "المثاقفيّة" -وفق تعبير الحاج- "سنتان وثمانية أشهر وثمانية وعشرون ليلة"، معتمدًا لأوّل مرّة أسلوب الواقعيّة السحريّة؛ وقد أضاء على آراء عدد من النقّاد حولها، كما خصّه (ص 87) بترجمة لحوار صحفي أجراه معه "جاك ليفينغز" سنة 2005.

أو كما في حديثه عن رواية الشاعر العراقي عبد القادر الجنابي،"المرآة والقطار"، الصادرة عن دار التنوير في بيروت، والتي وصفها بأنّها "عمل يقع في خانة الرواية ما بعد الحداثيّة بكامل عدّتها اللغويّة والشكلانيّة والأجناسيّة والمقروئيّة." (ص 80) إذ لجأ كاتب هذه الرواية الإبداعيّة إلى العديد من الحيل أو "التكنيكات"-وفق تعبير الحاج- "لينقلنا دومًا إلى حقيقة التمرئي أمام الصفحة اللامعة لتاريخ الأجناس الأدبيّة" (ص79) مزاوجًا بين الحقيقي والمتخيَّل، وبين المشهديّة الشعريّة البديعة الآسرة والنثر، وبين الرواية البوليسيّة والعمل الأكاديمي... يكشف الحاج كلّ خبايا هذه الرواية ومقاصد كاتبها المسبقة والذكيّة، ليخلصَ إلى القول: إنّ "السرد ليس إنشاءً بل بناء والبناء يحتاج إلى اللبنة الصحيحة التي تجعله يصمد زمنًا طويلًا" وأنّ "الرواية فنٌّ صعبٌ للغاية، سرٌّ يظنّ الكثيرون أنّه من السهل اكتشافه فيثرثرون." (ص 82) ورواية الجنابي كما عرّف عنها الحاج "تقف وسطًا بين النوفيلا والرواية الشعريّة، وقصيدة النثر المطوّلة، ورواية التشويق البوليسي... "ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أن المفكّر كميل قيصر داغر كان قد أطلق على عبد القادر الجنابي لقب "شاعر السورياليّة العربيّة الأوّل". (ص 86)

 

عالم المسرح

يؤكّد حكمت الحاج في حديثه عن المسرح -وهو الضليع فيه- أنّ فنّاني المسرح أظهروا إثر الانفجار الحالي للمسرح الرقمي الناتج عن وباء كورونا "أنّ المسرح ليس مرتبطًا بشكل واضح بصالات العرض المسرحي. فوجود مبنى عامّ لارتياد المسرحيّات  المعروضة ليس ضروريًّا للأداء المسرحي ولا لانوجاد الفرجة وجمهورها". (ص 42) مشدّدًا على أنّه "لا ينبغي أبدًا تجاهل ما حصل وتداعياته حتى ولو كانت قريبة العهد، عند العودة إلى الحياة والأماكن العامّة، ومزاولة الأنشطة كما السابق". (ص 42) ومشيرًا إلى أنّه "لا يمكن أن يستمرّ مفهومنا للعرض المسرحي كما كان قبل COVID-19" (ص 44) وقد قدّم لنا عددًا من النصائح التي يعتبرها مفيدة وغير مكلفة، منها مراعاة عدد الممثّلين على الخشبة ومسافة التباعد بينهم، وعقد جلسات التداول عبر الوسائل التقنيّة الحديثة والتواصل عن بُعد، كذلك التمارين وتدريب الممثّلين... إلّا أنّ رؤيته للمسرح تعطي واقع كورونا الطارئ والعابر طابعًا شبه دائم، وهو أمر غير مؤكّد وغير دقيق، وقد يصبح الحديث عنه مجرّد ذكرى لمرحلة صعبة مرّت في تاريخ المسرح ولم تمكث لأكثر من سنتين أو ثلاث سنوات، رغم تأكيده على نجاح هذه التجربة في لندن، بحيث استقطب بثٌّ رقمي لمسرحيّة "خادم سيّدين" للكاتب كارلو غولدوني "قرابة المليونين ونصف مليون مشاهد على مدار أسبوع واحد فقط". (ص 46)

وهنا نشير إلى أنّه يربط الشعر بالعلم انطلاقًا من أسلوب أداء الممثّلين للنص الشعري على المسرح؛ كما يربطه بالعلم من خلال أعمال كبار العلماء الذين تركوا بصمتهم في عالمنا، ويذكر منهم: "ألبرت أينشتاين، نيلز بور، توماس أديسون، سيغموند فرويد، هايزنبرغ، لويس دوبريل، ألخ". معتبرًا أنّ الثورة الشعريّة الحقيقيّة قد رأت النور مع إطلالة ثورتهم العلميّة (ص 157). كما يربطه بالفطرة وفق قراءته لكتاب "حاطبُ ليلٍ ضَجِر" للكاتب السعودي الشيخ عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري الذي يقول فيه: "إنّ نثر التويجري موسيقى لا تقاوَم... إنّه نثر عربي مبين موغل في القدم على تخوم أبي حيان التوحيدي وأضرابه من أمراء البيان، يعطيك مذاق العصر ولا يخرج بك عن معطيات الزمان الحاضر، بإشكاليّاته ومشكلاته، عبر المسارات الكبرى والخطوط العريضة لإنسانيّتنا اليوم". (ص 176)

 

"لا يمكن أن يكون غير ذلك"!

قدّم حكمت الحاج في كتابه هذا عرضًا شاملًا للتوجّهات الفكريّة والدراسات البحثيّة حول اللغة، ومختلف الأنماط الكتابيّة، والكلمة ودلالاتها، متوقّفًا عند عدد مهمّ من الإصدارات حول العالم، ليؤكّد على أهمّيّة بعضها وموضوعيّته، أو يدحض ما يعتبره افتراء وكذبًا، معتمدًا الحجّة والبرهان الدامغ، دأبه دأب كلّ معلّم يخشى على طلّابه من سوس التزوير للتاريخ، فيجاهد لتوجيههم وإنارة الطريق لهم ليحسنوا التفكيك والتحليل والحكم بالعقل والمنطق. 

تنفحنا مقالات حكمت الحاج بعبير الكلمة المختزن بين السطور -ولا عجب وهو من رعيل شعراء الحداثة- ينتشر مغلّفًا فكرك كلّما فتحت صفحة جديدة، ينقل لك عطور حكايات وكتابات قديمة وحديثة، عربيّة وغربيّة، مكثّفة المعاني والدلالات، حبلى بالافتراضات الجميلة الممكنة وغير الممكنة ربّما... تقرأ الكلمات فتجدها تغذّي فكرك من حين إلى آخر بجديد، أو تعيد لذائقتك طعم شيء قديم اشتقته، فتتناوله بشهيّة!

لله درّك شربل داغر كيف "تآمرت" على حكمت الحاج وزججته في هذه المغامرة لتصطادنا جميعًا بشباكها، وذلك حين عملت على تشجيعه لجمع مقالاته تلك في كتاب بعد أن كانت نُشرت في الصحف والمجلّات والمواقع الإلكترونيّة، ملحًّا عليه في ذلك، مستفيدًا من العلاقة الشخصيّة التي تربطكما، ولم تنِ حتّى أصبت الظفر ونجحت في تحويل الفكرة إلى مشروع كتاب سيفيد من نشره العديد من القرّاء والباحثين، فوفاك هذا الدين حكمت الحاج في ما خطّه يراعه عند إهداء هذا العمل، إذ "لا يمكن أن يكون غير ذلك"!

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم