الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

كوارث تنقضّ على المواطن اللبناني وساحات الاحتجاج فارغة... لماذا لم تستفق "الثورة"؟

المصدر: "النهار"
جودي الأسمر
جودي الأسمر
الشارع المشتعل (نبيل اسماعيل).
الشارع المشتعل (نبيل اسماعيل).
A+ A-

بقدر ما تتعاظم أزمات لبنان، وهي تسلك مناحي تفوق التصوّر، فيشكو المواطنون وجعَهم، ويصبّون جامَ غضبهم على السلطة في مجالسهم وعلى الشاشات الافتراضيّة، يحضر سؤال، إلا أنه يبقى معلّق المصير: ألم يحن وقت النزول إلى الساحات؛ إن لم يكن اليوم، فمتى؟

خيبة وأولويات أخرى

الجواب هو "لا"، حسمته العاملة الاجتماعية والناشطة زينب مراد.

لكن زينب (27 سنة) لم تُناصر حزباً سياسيّاً، ولم تكن أيضاً ممّن وقفوا محايدين تُجاه ثورة 17 تشرين. كان التزامها واضحاً منذ اليوم الأول؛ تناقلت صحفٌ صورتها وهي تلملم النفايات من ساحة عبد الحميد كرامي (النور) حرصاً على نظافتها، وتلتحق بحوارات التثقيف السياسيّ بين طرابلس وبيروت. كانت مؤمنة وملتزمة بالثورة.

 اليوم، بعد ساعات من رفع الدعم عن الوقود، تعترف بما لديها في داخلها، وتقول: "لديّ مشاعر أعجز عن وصفها. لم يسبق لي أن لعنت ضعفي مثلما أفعل اليوم. أريد أن أكون مهمّة. أريد أن أكون مفيدة. أريد أن أبني بلدي لا بلدهم، لكنني مشلولة. أستمع إلى الموسيقى الصاخبة بينما أبحث عن تغطية حيّة لما يحدث في الشوارع. أريد أن آكل لأحمي جسمي، وأريد تجويع نفسي أيضاً. أريد وأحتاج إلى الاستمرار في وظيفتي، وأريد أن أكون جزءاً من مجموعة ثوريين أيضاً. أنا أبتسم، وقد أضحك بشكل هستيريّ لنكتة سخيفة؛ وفي الوقت نفسه أتألّم وأختنق بدموعي. أتمنّى أن أعيش حياة لائقة في بلدي، مثلما أتمنى أن أتلاشى".

وحين سألنا زينب إن كانت ستشارك في "الثورة" مجدّداً إذا نزل الناس إلى الساحات، تنفي أيّ رغبة: "النزول إلى الشارع يزيدني غضباً، لأنني في كلّ مرة انضممت خلالها إلى تظاهرة، لم أجنِ سوى الغضب. لقد تكدّس الغضب في داخلي، لأنّني وجدت أنّنا بقينا في أمكنتنا، ولم يحقق نزولنا إلى الشارع أيّ نتيجة".

يشاركها الموقف جو نادر (24 سنة)، الذي أمضى شهوراً في المشاركة بالتظاهرات، بين ساحة الشهداء وطرابلس والكورة وزغرتا، حتى أنه خالف قوانين جمعيّته المحايدة، التي تفرض عدم المشاركة في أيّ تظاهرة ذات طابع سياسي.

يسأل الشاب "عن أيّ ثورة نتحدّث؟ إن حققت "الثورة" نتيجة فسأكون أوّل من ينضم إليها. لن أنزل إلى الشارع مجدّداً"، شارحاً أنّه صرف اهتمامه إلى العمل في جمعيّة بدوام جزئي، إلى جانب دراسته هندسة الاتصالات، مضيفاً: "أمّي وأبّي معلّمان. انخفض راتبهما حتى النصف. والجامعة توقّفت عن تقديم الحسومات للطلاب. أحاول ادّخار المال لأساعد أهلي ومتابعة تعليمي في فرنسا، ولن أعود إلى لبنان قبل أن أصل إلى مستوى ماليّ يُمكّنني من العيش بشكل لائق ويصون كرامتي".

العامل الاقتصادي والثورة

الأستاذة المساعدة في علم الاجتماع في الجامعة الأميركية في بيروت، الدكتورة ريما ماجد، تفسّر هذا الواقع برأي يقول "إن مقاربة الاحتجاج لناحية أن الواتساب بـ6 دولارات دفعت بالناس إلى الشارع، والدولار الذي تخطّى الـ 20 ألفاً لم يدفعهم إلى النزول للشارع، هي مقاربة غير دقيقة من زاوية علم الاجتماع. علينا أن نلجأ إلى المسار الزمني. فالناس شغلت الساحات والشوارع لشهور، لكنّها لم تتوصّل إلى التغيير السياسي الذي طمحت إليه. اللبناني الذي ثار في انتفاضة 17 تشرين هو نفسه المنهك واليائس، بشعوره أنّ الشارع لم يؤدِّ إلى نتيجة".

وتُضيف: "في أوقات الأزمات، عادة ما لا يكون تحرّك الشارع بديهيّاً. فالدراسات تشير إلى أنّ النزول الى الشارع لا يحدث عند استفحال الأزمات الاقتصادية، فحين تستعصي الظروف المعيشية، ستكون الناس منهكة، وتتّجه طاقتها إلى تأمين لقمة عيشها وحاجيّاتها الأساسيّة. النزول إلى الشارع في ضوء ما تقاسيه الأغلبيّة الساحقة من اللبنانيين هو "ترف" لا يملكونه".
وتعقّب بأنّ "الثورات عادة لا تندلع في قلب الأزمة الاقتصادية، إنّما في بداياتها"، مثال ذلك: "قد تكون شرارة الانتفاضة في تونس سببها أنّ بائعاً للخضراوات أضرم النار بنفسه. لكن الفقر هو معاناة عالميّة تضرب جميع الدول بسبب النظام الرأسمالي، ومن البداهة أن تنخرط الطبقات المتضرّرة من هذا النظام في شحذ الثورة. و
في هذا السياق، كانت تسعيرة الـ6 دولارات نذيرة أزمة في البلاد، لكن الأزمة حينذاك لم تكن قد وقعت حقاً. اليوم، اللبنانيون يواصلون "سقوطاً حرّاً" لا قعر له".


وفي صورة ما أمست عليه ثورة 17 تشرين، تؤكّد ماجد أن "مظاهرات تحدث هنا وهناك، والعدد الذي تظاهر في 4 آب (أكثر من 100 ألف) هو عدد كبير جداً بالنسبة إلى التوقّعات، إلا أنّ الانتفاضة في لبنان ينقصها التنظيم والقيادة، وهو ما يجعلها لا تنتقل إلى المرحلة التالية"، و"العامل العضوي الذي يُعيق التنظيم هو غياب الدينامية النقابيّة في لبنان، فضلاً عن غياب الأحزاب الجماهيرية المعارضة".

الدولة تصادر الثورة

 وفق الباحثة، "البلد مفتوح أمام العنف. لكنّه ليس العنف الثوريّ، إنما من الوارد والسهل جداً على الأحزاب الطائفية التقليدية تعبئة شارعها لتخريب أيّ تحرّك. العنف الثوريّ هو عنف منظّم ويتبع نظريّة ثوريّة. قطع الطرقات مثلًا، كنّا في بداية الثورة نعتبرها عملاً ثوريّاً عفويّاً، وكان يجسّد المفهوم الثوري؛ فإن أردت أن تقوم بثورة، فعليك أن تشلّ البلاد، وأن تضغط لأجل إضراب عام، إنّما ما نشهد اليوم هو تجسيد لما يسمّى في علم السياسة co-optation، أي حين تستولي الدولة على الفعل الثوري: إن قطع الثوار الطرقات، تقطع الدولة الطرقات. إن أضرب الثوار، أضربت الدولة، وإن تظاهر الثوار، تظاهرت الدولة، الأمر الذي شهدناه مع مناصري أهمّ أحزاب السلطة".

بالنتيجة، "هذه الأساليب التي تعتمد الدولة اللجوء إليها تفرغ أيّ عمل احتجاجيّ من مضمونه، لأن أيّ وسيلة يريد المحتجّون استخدامها، ستسارع الدولة إلى الاستيلاء عليها لمحاصرة الاحتجاجات الشعبية".

وفي سؤال حول دور دولار الاغتراب في تخدير غضب الفقراء وتأخير الانفجار الاجتماعي، تجيب الباحثة بأنّ "رفع الدّعم لن يحتفظ بنفس القيمة المتضخّمة للدولار، أي إنّ الـ200 دولار مثلاً ستعود إلى قيمتها الشرائيّة التي عهدها لبنان قبل التضخّم".

وترى ماجد في "الهجرة" أهمّ العوامل الاجتماعية التي تجسّد خطورة الانهيار الحقيقي، وبالأخصّ حين تفتقر القطاعات الخاصّة إلى الكفاءات والموارد؛ ونتحدث هنا عن كبريات المستشفيات والجامعات غير القادرة على الاستمرار في لبنان. ولهذا العامل تداعيات سيعاني لبنان صعوبات في ترميمها خلال السنوات العشرين المقبلة، فالكوادر التي ترحل لا تعود بالعادة إلى لبنان، ومستوى التعليم والطبابة إلى انهيار".

من ناحية ثانية، "ليس التغيير الثوري محدوداً بالحدود الجغرافية، ففي الثورة البولشيفيّة مثلاً، لم يكن لينين ولا تروتسكي مقيمين في روسيا. أعتقد أن الخارج يستطيع أن يؤدّي دوراً سياسياً مهمّاً بالتنسيق مع المجموعات المقيمة، مقابل تجربة حزبيّة متكلّسة أو لم تنضج بعد في داخل لبنان".

وفي استنتاج للمعطيات، لا يبدو الأفق واعداً بالخير، إذ تتوافر في لبنان "كلّ الظروف الموضوعيّة المهيّئة لهبّات جديدة"، مع فارق جوهري هو أنّه "من المتوقّع أنّ الهبّة المقبلة لن تشبه التحرّك السابق بشيء؛ في سياق الثورة أمامنا مسار طويل يستدعي سنوات بل عقوداً. لكن الموجة المقبلة في ظروف لبنان تتّجه نحو الحرب. وليست الحرب "انفجار المجتمع"، بل هي نتيجة قرار سياسي؛ إن أعطي الضوء الأخضر بالتعبئة والتسليح وبوادره تتجلّى في الفلتان الأمني الراهن، قد لا تشبه شوارعنا حرب الـ75، ولا ثورة تشرين، إنّما هي مرحلة "الثورة المضادة" (counter-revolutionary) التي صنعتها الدولة ضدّ ما هو ثوريّ، حيث سينكفئ الناس إلى بيوتهم وتفرغ الساحات للميليشيات".

 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم