الإثنين - 06 أيار 2024

إعلان

سلاح الاستعمار الفتاّك: تسييس الهوية

المصدر: النهار - الان علم الدين
كاريكاتور علي خليل
كاريكاتور علي خليل
A+ A-
يمكن تعريف الهوية بأنها ماهية الشخص أو الأشخاص، أي مجموعة صفات تشمل كل جوانبهم وتميّزهم عن الآخرين وتجعلهم منفردين بها. وغالبًا ما تتشكّل هويّات جماعيّة قد تكون إثنيّة، دينيّة، ثقافيّة، جندريّة، أو غيرها. وكلّما كانت هذه الصّفات أو الخلفيّات المشتركة منفصلة عن واقع الأفراد الاجتماعيّ ومصالحهم المادّيّة، كان تمايزهم الهويّاتي عن غيرهم متخيّلًا اجتماعيًّا. إن تسييس الهويّة، أي اعتبار أنّ من تجمعهم هذه الهويّة وتميّزهم عن غيرهم يشكّلون مجموعةً أو طائفةً أو قومًا، وبالتّالي يتمتّعون بحقوقٍ خاصّةٍ بهم، حتّى لو خلا هذا الاعتبار من أيّ كرهٍ للآخر، يحدِث شرخًا هويّاتيًا في المجتمع.
على هذا النّحو، إنّ اعتبار هويّة المرء أو خلفيته عاملًا مؤثّرًا في منحه أو حرمانه الإكرامَ أو الحقوق أو الامتيازات، كالعضويّة في حركةٍ سياسيّةٍ أو امتلاك حقوقٍ مدنيّةٍ كالتّعليم أو العمل أو الإسكان أو امتلاك الأرض أو حرّيّة التّنقّل أو الإقامة أو الجنسيّة أو غير ذلك، هو تجلٍّ لمقاربةٍ هويّاتيةٍ لدى إيديولوجيّة أو حركة سياسيّة أو دولة.
ليست هذه المقاربة وليدة الصّدفة، بل هي جوهر المشروع الاستعماري. ففي حين يندمج المهاجرون في المجتمع الذي ينتقلون إليه، يفرِز المستوطنون أنفسهم عن "الآخر" ويعملون على تشكيل مجتمعٍ ونظامٍ سياسيّ خاصّين بهم، يفكّكان المجتمع القائم ويحلاّن محلّه. لذا، عمل المشروع الاستعماريّ على مرّ العصور على تسييس الهويّة بهدف إحداث شروخاتٍ وتفكيك المجتمعات التي استهدفها. وقدّم هذا المشروع نموذجَ ما سمّاه "الدّولة القوميّة"، أي دولة ترى النّاس طوائف وتكوّن آلة حربٍ خاصّةٍ بمجموعةٍ في وجه أخَر، عوض أن ترى الأفراد مواطنين على اختلاف خلفيّاتهم وتكوّن أداة لإدارة شؤون المجتمع. وما كانت نتيجة تسييس الهويّة هذا إلا قروناً من التّفكيك المجتمعيّ والتّمييز القانونيّ والسّياسيّ والاقتصاديّ والثّقافيّ والفصل العنصريّ "أبرتهايد" والاستعباد والنّزوح الجماعيّ والتّطهير العرقيّ والإبادات الجماعيّة وغيرها من الجرائم.
لا يمكن أن تقتصر مواجهة هذه الآفة على الإدانة الأخلاقيّة، أو الاحتكام إلى قوانين، أو المناداة بما يسمّى "حقوق الإنسان". ولا يمكن أن تقتصر على محاكمة الجرائم والمجرمين دون مواجهة ومحاكمة وإفشال المشروع السّياسيّ القائم على تسييس الهويّة وإحداث شروخاتٍ هويّاتيةٍ في المجتمعات. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى مخاطر هذه المقاربة:
• بما أنّ الطّوائف تتشكّل على أساس ما يميّزها عن الآخر، لا يمكنها إلاّ أن تكون كياناتٍ متناحرة. وهكذا تفتّت المقاربات الهويّاتية المجتمعاتِ التي تنطلق منها، أو تنشِئها، أو تستهدفها. وليس من الصعب استذكار أمثلةٍ عن العدوانيّة التي نتجت عن تسييس الهويّة بين عربٍ وأكرادٍ، كاثوليك وبروتستانت، هوتو وتوتسي، وغيرهم.
• المجتمع مكوّن من كتلِ مصالحٍ، أي مجموعاتٍ تربطهم مصالح حقيقيّة، مثل الفلّاحين، موظّفي القطاع العام، العائلاتِ ذاتِ الدّخل المحدود، أصحابِ البيوت، إلخ. بالمقابل، ليست الطوائف كتلَ مصالحٍ، أي أنّ ما يجمع أعضاءَها هو متخيّل اجتماعيّ منفصل عن واقعهم ومصالحهم الحقيقيّة. لذا، لا يمكن لأيّ خطابٍ سياسيّ هويّاتيّ أن يتوافقَ مع احتياجات المجتمع الحقيقيّة. وقد يكون لبنان خير مثالٍ عن العواقب التي حصدها مجتمع كامل حرِم من أبسط مقوّمات العيش نتيجة خطاباتٍ مثل "حقوق المسيحيّين" و"حقوق الشّيعة" و"حقوق الأقلّيّات".
• ينتج عن تسييس الهويّة تناقضات عميقة. فيقع على الحركات أو الأنظمة التي تسيّس الهويّة عبء اصطناع و/أو تحديد هويّاتٍ جماعيّةٍ وفرض متخيّلها على أفرادٍ قد لا يشاركونها رؤيتَها. وتحضر هنا الجرائم التي ارتكبها الصّهاينة بحقّ يهودٍ رفضوا المشاركةَ في استيطان فلسطين، وعجز دولة إسرائيل عن تحديد شروط اعتبارِ المرءِ يهوديًّا.
• "لا نهاية" للشّرخ الهويّاتي. ففي حين يبدو صراع الهويّات أداةً سهلةً للتّجييش، لا ينتهي الأمر عند مواجهة الغير، بل يعود ليفتّت المجموعة الهويّاتية نفسَها على أساس اختلافاتها الهوياتيّة الضّمنيّة، وتحديدًا في الحالات التي تستطيع هذه المجموعة فيها فرض هيمنتها، ما يفقِدها عنصر تمايزها عن الغير. وهنا تجدر الإشارة إلى ما حدث في السّودان. فما إن انقسم جنوب السودان المسيحيّ عن السّودان المسلم حتّى وقع في حرب أهليّة بين قبائلَ مسيحيّة وقبائلَ مسيحيّة أخرى.
إنّ المشروع الصّهيونيّ، بزعمه أنّ يهود العالم يشكّلون قومًا واحدًا صاحب حقوق ومنها حقّ إقامة دولةٍ خاصّة بهم، وبإقامته هذه الدولة على أرض فلسطين، ليس سوى تجلٍّ للمشروع الاستعماري العالميّ، وقد يكون أبرز تجلٍّ له.
من هذا المنطلق، ترفض مبادرة الدّولة الدّيمقراطيّة الواحدة المقاربات الهويّاتية كالاعتراف بشرعيّة الدّولة اليهوديّة من خلال "حلّ الدّولتين"، أو مواجهة المشروع العنصري بمشروعٍ عنصري آخر، فالمحتلّ يقاوَم ويطرَد لأنه محتلّ، وليس على أساس دينه أو هويّته. بالأحرى، يأتي حلّ الدّولة الدّيمقراطيّة الواحدة ليقول إنّ مواجهة المشروع الصّهيونيّ لا تكون إلّا بمشروع سياسيٍّ يصيبه في أساسِ زعمه، أي مشروعٍ يرى الدّول أدواتٍ لإدارة المجتمع على أساس مصالح مواطنيه الحقيقيّة، لا آلاتِ حربٍ خاصّة بطوائف في وجه طوائف أخرى. إنّ هذا المشروع الهادف لقيام دولةٍ ديمقراطيّةٍ واحدةٍ، على كامل تراب فلسطين، يشكّل النّقيض الجوهريّ للمشروع الصّهيونيّ وللنّموذج الهويّاتي الاستعماريّ العالميّ.
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم