الأحد - 28 نيسان 2024

إعلان

والآتي أعظم

المصدر: النهار - عمّار الحيدري
أما بعد .. تتساقط كافة الفرص للنجاة من السقوط نحو الدرك الأسفل والسافل في آن بعدما احترقت سابقاً جميع الخيارات أمام فلسفات واهمة وهندسات ملفقة مدبرة لعبقرية شيطانية تقودنا بجميع طرقها نحو جهنم ...
أما بعد .. تتساقط كافة الفرص للنجاة من السقوط نحو الدرك الأسفل والسافل في آن بعدما احترقت سابقاً جميع الخيارات أمام فلسفات واهمة وهندسات ملفقة مدبرة لعبقرية شيطانية تقودنا بجميع طرقها نحو جهنم ...
A+ A-
أما بعد ..
تتساقط كافة الفرص للنجاة من السقوط نحو الدرك الأسفل والسافل في آن بعدما احترقت سابقاً جميع الخيارات أمام فلسفات واهمة وهندسات ملفقة مدبرة لعبقرية شيطانية تقودنا بجميع طرقها نحو جهنم ...
بالأمس القريب (ما قبل ثورة تشرين المجهضة وعهد الكورونا الذي بات على شاكلة ستة وستة مكرر) كانت تلك الشعرة التي قصمت ضهر البعير وأظهرت على العلن وبشكل فاضح خيوط الفساد بكافة أشكاله وألوانه وانواعه، وكالعادة أبطاله هم ... عرابو الشؤم (الطبقة السياسية المهترئة) وملحقاتها من شركاء وأذناب في الخارج والداخل.
المفارقة هنا... أن الجميع يعلم هذا الكلام جيداً (كبيرنا وصغيرنا كما القاصي والداني أيضاً)، إلا أننا لسببٍ أو لآخر نشارك بصمتنا المبهم والمريب في تكاثر الفساد وزبانيته رغم الضرر الكبير الذي يلحقنا من جراء هذا الصمت غير المبرر وغير المفهوم، البعض يشير إلى أن جزءاً كبيراً مما آلت إليه الأوضاع في لبنان هو نتيجة تراكمات وذيول الحرب الأهلية (1975-1990) والبعض يشير إلى الهندسات المالية للحكومات المتعاقبة منذ 1993 ولغاية اليوم... إلا أن السواد الأعظم يرجح سبباً آخر وهو الغنائم التي إقتسمها أهل السلطة وحلفاؤهم من عهد الترويكا ولغاية العهد القوي، وكذلك خنوع (قطيع الخرفان) الشعب الغارق في أحضان أمراء الحرب السابقين وكذلك إرتهانهم لأمراء الطوائف الذين يستخدمون الدين كأداة لمصالح خاصة دنيوية تحت عباءة الدين ضمن بند فتاوى شريعية في خدمة السلطة العليا.
فلبنان أو ما كان يسمى فيما مضى بسويسرا الشرق وكنا سابقاً نتغني به... (سيبقى فقط للذكرى ليس أكثر)، هذا الكيان يدور في فلكٍ لا جاذبية له ليسير من خلاله بشكله الطبيعي، بل تسيره محاور عدة (عُروبة،مُمَانَعة، دينية، شرق أوسطية، مُطبِعَة... عرقية) وما إلى هنالك من محاور متجددة ومستجدة فهي (غب الطلب) تُنبش من قبرها في الوقت المناسب... ولمَ لا؟ فلطالما هنالك شعب يدّعي التحضر والتمدن والفطنة واللباقة والأناقة وهو بكل تجرد شعبُ (التوك شوو) ليس أكثر، وهذا باختصار ما كانت نتيجته عقب فورة 17 تشرين الأول 2019.
لكن التفاوت في المداخيل آفةٌ مستوطنة في لبنان. أُجريت الدراسة الأولى عن توزيع المداخيل في البلاد في العام 1960، وكشفت أن نسبة الـ4 في المئة الأكثر ثراءً من السكّان تجني 32 في المئة من الدخل الوطني. وبيّنت الدراسة كذلك أن نصف السكّان يعيشون في الفقر، ولا تتعدّى حصتهم 18 في المئة من الدخل الوطني، حتى إنها أظهرت أوجه تفاوت كبيرة في أوساط المجموعتَين الواقعتين بين شريحة الـ4 في المئة الأكثر ثراءً وشريحة الـ50 في المئة في أسفل التراتبية، مع أن تقدير نسبة الثروة إلى الدخل في لبنان بشكل دقيق أمر مستحيل. يُعتبر هذا مؤشّرًا مقلقًا، إذ أظهرت الأبحاث أن الديناميكيات بين رأسَي المال العام والخاص أساسية لشرح مستويات التفاوت الاجتماعي. فعلى سبيل المثال، ترافق ازدياد معدلات التفاوت في الدخل عالميًا مع ارتفاع رأس المال الخاص وانخفاض رأس المال العام.
يُشار أيضًا إلى أن مرحلة إعادة الإعمار التي تلت الحرب الأهلية تخلّلها انتقال نحو سياسات نيوليبرالية شبيهة بتلك التي شهدتها دول غربية في ثمانينيات القرن المنصرم. وقد عمدت نخب رجال الأعمال والسياسيين إلى خصخصة الاقتصاد وسهّلت حيازة شللها للأصول العقارية والمالية بشكلٍ هائل، ما مكّنها من جني إيرادات طائلة على مر السنوات. يشير استيلاء المسؤولين السياسيين على موارد البلاد أيضًا إلى أن إجمالي حصة لبنان من رأس المال العام، أو الأصول المملوكة من الدولة والمستخدمة لتحقيق المصلحة العامة، متدنٍّ للغاية حتمًاً.
فأحد مساوئ النموذج اللبناني للديمقراطية التوافقية هو ترسيخ الهويات الطائفية ومأسستها، ما يفاقم بدوره التفاوت الاجتماعي. وفي لبنان، تؤثّر الطائفية على كل جوانب الحياة، بدءًا من الزواج والميراث، ومرورًا بالتمثيل السياسي والتوظيف، ووصولًا إلى ملكية الأراضي والتعيينات القضائية وغيرها.
تغذّي هذه المأسسة التنافس بين الطوائف وتكرّس تفشّي الممارسات الزبائنية، وتعيق إمكانية ظهور أحزاب سياسية متعدّدة الطوائف من شأنها كسر هذه الحلقة المفرغة.
في العام 2020، وعلى ضوء تراجُع قيمة الليرة اللبنانية بسبب الأزمة المالية التي بلغت أشدّها، دخل الاقتصاد مرحلة السقوط الحر، وازدادت بشكل كبير أعداد السكان الذين يعانون ضائقة مالية شديدة. وفي حزيران 2020، أعلن وزير الاقتصاد راوول نعمه أن 60 في المئة من اللبنانيين سيصبحون دون خط الفقر بحلول نهاية العام. وفي الشهر نفسه أيضًا، كشف رئيس جمعية تجّار بيروت أن ربع المؤسسات الخاصة في بيروت أقفلت أبوابها، فيما تُسجّل أرقامٌ أعلى خارج العاصمة؛ وتوقّع أيضًا استمرار هذا المنحى. وفي تموز 2020، ارتفعت أسعار المواد الغذائية والمشروبات غير الكحولية بنسبة 24 في المئة مقارنةً مع الشهر السابق، وبنسبة تفوق 330 في المئة مقارنةً مع ما كانت عليه في شهر تموز 2019.
بدأ الاقتصاد السياسي في لبنان رحلة التداعي حتى قبل الاحتجاجات الحاشدة التي هزّت البلاد في تشرين الأول 2019 لكن فوجئ كثيرون بالانهيار المالي المحتوم الذي يتوالى فصولًا، وذلك بسبب الاعتقاد السائد بأن مبدأَي الديمقراطية التوافقية وعدم تدخّل الدولة في الاقتصاد (وكلاهما متجذّران في القطاعَين المصرفي والعقاري)، هما عاملان استثنائيان وقادران على الصمود. ولطالما بالغت النخبة السياسية الحاكمة في الحديث عن الاستثناء اللبناني بغية الحفاظ على وضع قائم كانت هي المستفيد الأساسي، لا بل الحصري، منه. ولكن الحقيقة هي أن الاستثناء اللبناني يكمن في اللامساواة الهائلة في المداخيل والثروات، والتي تستمر بسبب فساد الاقتصاد السياسي. وهذا الاستثناء كان تحديدًا المحرّك الأساسي لاحتجاجات العام 2019.
أفرز النموذج اللبناني من الديمقراطية التوافقية نظام "الكارتيل الحزبي". وهو عبارة عن تكتّل من يضمّ نخبًا متجابهة إيديولوجيًا إنما مضطرة لتقاسم السلطة مع بعضها البعض، عبر تشكيل حكومات وحدة وطنية في غالب الأحيان. وقد اعتمد لبنان بشكل مفرط على هذه الحكومات منذ نهاية الحرب الأهلية، وخصوصًا خلال السنوات التي أعقبت اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري في العام 2005.
صحيح أن اتفاق الطائف الذي وُقِّع في العام 1989 وضع حدًّا للحرب الأهلية اللبنانية، لكنه وطّد أيضًا أركان الديمقراطية التوافقية الإشكالية في البلاد. يضمن النظام الديمقراطي التوافقي أن تُمثَّل كل طائفة من طوائف البلاد في الحكومة وسائر مؤسسات الدولة، وأن تؤثّر في السياسات العامة. نظريًا، تتمثّل حسنات الديمقراطية التوافقية في أنها تسمح بتشارك السلطة على نحو عادل بين أطراف متعدّدة للحؤول دون نشوب نزاع أهلي، لكنها عمليًا تقوّض عملية الحوكمة. وفي حالة لبنان تحديدًا، منح هذا النظام النخبة الحاكمة، أي المسؤولين السياسيين الطائفيين، وسائل شتى لتكديس الثروات على حساب السواد الأعظم من السكان.
تُعتبر أسباب الأزمات المتعددة التي يواجهها لبنان راهنًا متأصّلة في نظامه، إذ إن الاقتصاد السياسي في البلاد يتيح لنخبه الحاكمة تكديس الثروات على حساب غالبية السكان، وتدمير الدولة شيئًا فشيئًا. لذا، ينبغي أن يكون الحل سياسيًا في الدرجة الأولى. لكن نظرًا إلى فداحة المشكلة، لا بدّ من إعادة تشكيل نموذج لبنان الاقتصادي. من بين الإصلاحات الاقتصادية المتاحة، تُعدّ تلك المتعلقة بالسياسات الضريبية مناسبة جدًّا لمعالجة المستويات الحادة من الفقر والتفاوت الاجتماعي.
كما يحتاج لبنان إلى فرض ضريبة دخل تصاعدية شاملة على مصادر الدخل مجتمعةً وليس بشكل منفصل. وفي هذا الصدد، من المهم أن تشمل الضرائب المباشرة مداخيل رأس المال بكافة أنواعها، إذ إن مصادر معينة منها، مثل (الفوائد ومكاسب رأس المال)، لا تخضع لنظام الضريبة على الدخل الشخصي الراهن، بل تخضع بدلًا من ذلك لنسبة ثابتة وغير تصاعدية. فالضرائب الشاملة على الدخل تُعتبر وسيلة فعّالة لزيادة الإيرادات وتوزيعها بصورة منصفة.
خلاصة الأمر ..
يمكن بسهولة تخيُّل ما سيكون عليه مصير لبنان ما لم يشهد تغييرًا سياسيًا جذريًا ويطبّق إصلاحات اقتصادية فعلية. فستتسارع وتيرة إنهيار البلاد، وستتّسع هوة التفاوت الحاد في المداخيل والثروات، ما سيؤدي إلى حدوث إضطرابات اجتماعية، لا بل إلى صراع مفتوح. بعبارة أخرى، سيصبح لبنان في ظل هذا السيناريو المُحزن دولة فاشلة أكثر فأكثر... والآتي أعظم.




الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم