الأربعاء - 01 أيار 2024

إعلان

أمحوا صور أطفالكم عن الحائط... الرقمي!

المصدر: "النهار"
"sharenting" - تعبيرية.
"sharenting" - تعبيرية.
A+ A-

دكتور غسان مراد

ظهر أخيراً مصطلح Sharenting باللغة الإنكليزية، وهو عبارة عن جمع لمفردة share ومفردة parenting أي "المشاركة الأبوية" لصور الأطفال على شبكات التواصل. باللغة العربية، من يمكن نحت "الشراكابوية" كمصطلح عربي يحاكي المصطلح الإنكليزي. والسؤال الذي يُطرح: ما هي تبعات هذا الفعل على الأهل وعلى أطفالهم بشكل خاص؟
إنّ كلّ ما يحصل في العالم الواقعي ينتقل إلى العالم الرقمي، الأمر الذي أدّى بالبعض إلى انتقال وعرض ما "علّقوه" من صور على جدران بيوتهم ووضعوه على مكاتبهم، إلى صفحات الشبكات الاجتماعية (التي تسمّى بالمناسبة "الحائط الرقمي")؛ وتسمح التقنيات الرقمية بإتاحة ما ننشره ليس فقط لمن يزورنا افتراضياً، بل لكلّ الناس. فالحدود بين الخاص والعام في الحياة أصبحت ضيقة ومليئة بالثغرات؛ من منظور علم النفس، يأتي هذا الفعل قبل كلّ شيء، انطلاقاً من رغبة نرجسية في الكشف عمّا هو خاص. في المحصّلة، فإنّ مشاركة صور الأطفال تأتي في هذا الإطار، لكن يُخشى أن يصبحوا ضحايا، إذا ما جرى استغلال صورهم بصورة سيئة من جراء هذه الممارسات المعاصرة التي تتجه نحو العرض المكثّف.
لمشاركة صور أطفالنا على الشبكة تبعات متعدّدة، منها ما هو جيّد من خلال مشاركة الصور مع الأهل والأقارب ومراقبة نمو الأطفال وبناء بصمة وهويّة رقميّة للطفل، وهو وسيلة لإظهار بوادر النجاح، وفيه نوع من الافتخار بالطفل. أمّا ما هو سيئ فهو استغلال طرف ثالث لهذه الصور.
الذكر الأوّل ملك الشاشة!
في المجتمعات الغربية، التي تتضاءل فيها نسبة الولادة، المتجهة نحو الطفل الواحد، باتت للطفل أهمية كبيرة، وفي بعض الأمكنة، كالصين مثلاً وصلنا إلى "عبادة" الطفل بعد تطبيق سياسة الطفل الواحد، حيث يُعتبر المولود "إلهاً" حيّاً. أمّا في بعض بلدان البحر الأبيض المتوسط، خاصةً الدول العربية، يصبح الطفل، وبالتحديد الذكر الأوّل، "الوريث" لدرجة يصفه الأب والأقارب والأصدقاء (افتخاراً) برب الأسرة عند التحدّث عنه. أمّا أنثروبولوجياً من الناحية الوراثية، فإنّ الطفل هو أثمن ما يملكه أيّ إنسان.
لا يقتصر عرض صور الأطفال على الأهل الذين يريدون التفاخر بنجاح أطفالهم، بل يتعدّاه إلى الأجداد الذين يعتبرون أنّ الاهتمام بالأحفاد يعطي لحياتهم أهمية أكبر بعد تقدّمهم في السن، فتعيش الجدات "الأمومة بالوكالة"، كما يودّ الأجداد إظهار فخرهم بنسلهم للآخرين. لذلك، يجب عدم الخلط بين "حب الطفل" و"حب الذات"؛ فليس من الطبيعي أن نتعامل مع أغلى ما لدينا على أنّه سلعة. فالإفراط في عرض صور الطفل بكل الوسائل الممكنة لتقدير أنفسنا هو انعكاس لنرجسيّة سامة، ويدفعنا إلى "الجنون" في ضوء التحديات الوهمية حيث يكون الطفل مجرّد أداة للتألّق اجتماعياً. ومن المهم التمييز بوضوح بين هذا الاتجاه العام نحو عرض الخاص وإظهار طفله على أنه "آخر موديل" كأي قطعة ثياب من ناحية، ومن أفضل الماركات العالمية؛ وبين جعله يظهر بشكلٍ فريد من ناحية أخرى، وبالتالي شخصاً مميّزاً لا مثيل له! ما يرفعه إلى مرتبة القدسية لدرجة يصبح فيها أغلى ما في الوجود.
استطراداً، فقد بيّنت الإحصاءات أنّ الذين لديهم صعوبة بالإنجاب يعرضون صور أطفالهم عندما ينجبونهم أكثر من الذين لا مشكلة إنجاب لديهم.
إنّ دور الصور هو تخليد اللحظة، كأوّل يوم في المدرسة، عيد الميلاد، أوّل دراجة، أفضل اللحظات مع أطفالهم ومشاركة الصور على الشبكات الاجتماعية. فهل يمكن لهذه الممارسة التي باتت شائعة أن تؤدي إلى مخاطر معيّنة؟ الجواب: نعم! ذلك ممكن! لأنّ السؤال المطروح هو عن خصوصية الأطفال... من الجيّد أن نفاخر، ولكن إلى ماذا سيؤدي هذا التشارك الواسع؟
يجب الإشارة إلى أنّ التفاعلات الاجتماعية الإيجابية، كالتعليق أو "الإعجاب"، يمكن أن تؤدّي إلى إطلاق الدوبامين في الدماغ، المعروف بهرمون السعادة، الـذي يأتي من الشعور "بالمكافأة" والذي بدوره يعزز السلوك. ببساطة، كلما زادت التعليقات الإيجابية التي يتلقاها المستخدم، زادت احتمالية نشر اللقطات مرة أخرى. هذه "الليكات" والتعليقات تشبه حبة السكر التي نعطيها للحصان عندما يقوم بحركة جيدة عند ترويضه. ولكن بما أنّ العديد من الآباء لم يكبروا مع شبكات التواصل، فهم ليسوا على دراية بالمخاطر المرتبطة بعرض أطفالهم.
أمّا عن نوع المخاطر، فإن هذه الممارسة تجعل الأطفال عرضة للمحتالين عبر الإنترنت. وقد تعرّضهم إلى التحرش الجنسي من قبل البعض الذين يفتّشون عن هكذا نوع من الصور. ومن الممكن لأيّ شخص أن يحفظها ويستخدمها لأغراضٍ فظيعة. كما قد يحاول البعض مراقبة الأطفال ومعرفة مكان سكنهم والحالة الاجتماعية لأهلهم، ما قد يؤدّي إلى الخطف مثلاً، خاصةً أنّ المنصات تجمع أدقّ التفاصيل لجميع المستخدمين، وأحياناً حتى قبل ولادة الطفل. هذه البصمة الرقمية تتبع الطفل طوال حياته. والكثير من الناس لديهم إمكانية الوصول إلى معلومات حول الأطفال والقاصرين.

انتهاك خصوصية ومخالفات قانونية
لا شكّ أنّ مشاركة الصور تثير قضايا تتعلّق بالموافقة. ومن المؤكّد أنّه لا توجد موافقة حقيقية من قبل العديد من هؤلاء الأطفال. ونذكّر ببعض التقارير الصحفية عن حالات تقدّم بها البالغون ضد أهلهم نظراً للتنمّر الذي يعانونه من نشر صورهم عندما كانوا أطفالاً على شبكات التواصل. ففي أيلول 2016، تقدمت فتاة نمسوية تبلغ من العمر 18 عاماً بشكوى ضد والديها، متهمة إيّاهما بانتهاك خصوصيتها وحقوق صورتها من خلال نشر ما يقرب من 500 صورة لها على الفيسبوك عندما كانت لا تزال قاصراً. وفي كانون الثاني 2018، أمرت المحكمة المدنية في روما أمّاً بإزالة الصور التي نشرتها لابنها، وحكمت عليها بدفع 10 آلاف يورو كتعويض، وعدم نشرها صوراً جديدة.
البروز بغض النظر عن التكاليف النفسية!
نحن نعيش تحت حكم المشاعر البارزة وعرض الذات الفورية المرئية في ثقافة التمظهر، أي البروز الكاذب أحياناً. هذه الديمقراطية الإعلامية توفر عدة دقائق من الشهرة لمن لا يستطيعون أن يكونوا مسموعين فعلياً. بينما يطمح الأقل حظًا إلى أن يصبحوا أكثر بروزاً من جراء استهلاك الويب التي تساعد في مسألة التقدير ولو بـ"اللايكات" المبعثرة. فالكلّ يريد حضوراً رقمياً معيناً وبارزاً.
ورغم كلّ ذلك، فإنّ بعض الأشخاص يميلون إلى السرية، فمنهم من يعتبر أنّه لكي تعيش سعيداً عليك العيش متخفياً، والبعض الآخر يغذّي نرجسيته من خلال الظهور، والبعض يخاف من مخاطر شبكات التواصل.
استطراداً، يمكن للمرء أن يكون متحفظاً وفي نفس الوقت متواجداً على الشبكات الاجتماعية. ولكن من المهم الحفاظ على جزءٍ من الغموض وعدم نشر كل شيء على الملأ، ويتطلّب ذلك جهداً كوننا على تواصل دائم. لذلك، من المفترض أن نكون أسياداً خلال استهلاك شبكات التواصل وليس تابعين مقلدين لما يجري عليها. وأن يكون عيش اللحظة هو المهم وليس أخذ صورة لهذه اللحظة. وهذا ينطبق على صور الأطفال واللعب معهم بدلاً من مراقبتهم وأخذ صور لهم دون الاهتمام بما يريدون فعليّاً في حياتهم.
الأطفال يتصوّرون والأهل يكسبون!
بالإضافة إلى ذلك، هناك العديد من الآباء الذين يستغلون أولادهم لنشر صورٍ لهم، وبالتالي، يصبح الأطفال مصدراً للدخل. وفي العديد من هذه الفيديوات يكون الأهل خلف الكاميرا ويهتمون بتحرير الصور ومقاطع الفيديو ويديرون الحسابات والموارد المادية والعقود. فبعض الأطفال المؤثرون على شبكات التواصل الاجتماعي وعلى موقع يوتيوب والتيك توك يقومون بالإعلان عن المنتجات والخدمات. لكن هذه النقود المكتسبة بسرعة تأتي مع مخاطر من ضمنها حقوق الطفل. فهل الربح المادي يطغى على حماية الطفل؟
يؤدّي كسب المال والشهرة في الصغر إلى افتقار الخصوصية بسبب الترويج الذاتي على الأنترنت وإلى زيادة المخاطر بسبب نشر البيانات الشخصية والعادات ونمط الحياة. فمن خلال إساءة استخدام هذه البيانات، يمكن للمحتوى المشترك أن يجعل الأطفال والشباب ضحايا لخطاب الكراهية والابتزاز الجنسي والسرقة الإلكترونية والاستمالة عبر الأنترنت.
ونذكّر أن للأطفال حقوقاً محدّدةً باتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل أهمها احترام خصوصيتهم وكرامتهم. الآباء الذين يصورون أطفالهم أو يصورونهم في لحظات حميمة ويشاركون الصور ومقاطع الفيديو دون موافقة الطفل ينتهكون ليس فقط خصوصيّته، بل أيضاً حقوقه الشخصية. هذا أمرٌ صعب حتى مع موافقة الطفل، حيث لا يستطيع الأطفال والمراهقون حتى الآن تقدير حجم الآثار الناتجة عن هذا الفعل.
تجب الاشارة إلى أنّ العديد من الأشخاص لا يحبون هذا الغزو لعالمهم الخاص، وهم أكثر تحفّظاً. ولكنّ ذلك لا يعني أنّهم لا يحبون أطفالهم.
لذا يُنصح الآباء بمراقبة مَن يتبع أطفالهم على شبكات التواصل ومَن يتابع الأطفال، واحترام شخصية الطفل، وحماية خصوصيته، وتنمية المهارات التي تساعده على الاحتراس الرقمي وحماية بيّناته، ومناقشة ما يحصل مع الأطفال على شبكات التواصل وتعريفهم على الفروقات بين الحياة الواقعية والحياة الافتراضية. ويبقى السؤال: هل سننجح في ذلك، أم أن السطوة الرقمية على حياة أطفالنا تخطت آراء الأباء وتوصياتهم لدرجة لم يعد لها أي أثر ولم تعد مسموعة ويؤخذ بها!


حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم