الأحد - 28 نيسان 2024

إعلان

طريق البخور ودرب الحرير... تضارب أم تكامل؟

المصدر: "النهار"
د. خالد محمد باطرفي
العلم الصيني مرفرفاً على إحدى الجزر. (أرشيفية. "أ.ف.ب")
العلم الصيني مرفرفاً على إحدى الجزر. (أرشيفية. "أ.ف.ب")
A+ A-
لفتت نظري خريطة أصدرتها الصين لطريق وطوق الحرير تسمّي فيها بعض الدول التي يمرّ بها بأسمائها التاريخية، كالحبشة وفارس وشبه الجزيرة العربية، كما لاحظت التعليق المرافق من مكتب الإعلام الصيني على منصّة "إكس"، وفيه أنّ الصين ستنظّم خلال أسابيع اجتماعاً دعت إليه تسعين دولة، وسيحضره بعض الرؤساء والقادة. وأنّ الهدف هو مصلحة البشرية، وليس تأجيج الصراعات كما يفعل الغرب.
 
ربطت هذا الموقف "المنفعل" بغياب الرئيس الصيني شي جين بينغ عن قمة مجموعة العشرين لأول مرة منذ تأسيسها، والاكتفاء بتمثيل رئيس الوزراء، وبإعلان الطريق الاقتصادي الجديد، الذي ينطلق من الهند مروراً بدول عربية، الإمارات والسعودية والأردن، وصولاً إلى أوروبا عبر اليونان.
 
والواقع أنّ الصين أخطأت في مشروعها بإصرارها على الالتزام بالخط القديم. فالعالم تغيّر خلال ألفي عام، والمسارات، ووسائل النقل، يفترض أن تتغيّر تبعاً لذلك. ففي زمن القوافل والقوارب الشراعية، كان التبادل التجاري يتحرّك على ثلاثة مسارات بريّة، الأول عبر شمال الهند (باكستان)، والثاني عن طريق فارس (إيران) مروراً ببابل (العراق) وبلاد الفرنجة في الشام وهضبة الأناضول، وانتهاء بروما. والثالث عبر بلاد ما وراء النهر (آسيا الوسطى) إلى شمال أوروبا.
 
أمّا الطوق البحري فقد كان يمرّ بالبلدان الواقعة على بحر الصين والمحيط الهندي، وبحر العرب، ثمّ موانئ اليمن والحبشة وشرق مصر على البحر الأحمر، مجاوراً شواطئها حتى لا تتوه المراكب الشراعية في أعالي البحار. وتنتقل البضائع عبر صعيد مصر، ونهر النيل في عبّارات تحملها إلى الإسكندرية. ومنها تنطلق بها السفن مجاورة لسواحل الشام والأناضول واليونان وإيطاليا وصولاً إلى ميناء جنوى (ايطاليا).
 
عملية معقّدة تعتمد على وسائل نقل مختلفة، وتنتقل فيها الحمولات من السفن والعبّارات إلى ظهور الجمال والبغال، عبر البحر والنهر والبرّ. تصلح لتاريخ ما قبل الميلاد، ولكنّها لا تناسب الألفية الثانية.
 
كما أنّ المسارات القديمة التي تمر بإمبراطوريات عظمى لم تعد آمنة. فطريق يمر بمناطق تحكمها أو تهددها طالبان، أو بلدان تعيش حالات عدم استقرار اقتصادي أو أمني، وتحتاج إلى تطوير بنيتها التحتية، كالموانئ والسكك الحديد والمطارات والمحطات والمستودعات، يعني أنّ المشروع بحاجة الى استثمارات هائلة، قد تعطلها أو تهدّدها التقلبات السياسية والأمنية والبيئية.
 
وعلى سبيل المثال، لا الحصر، رصدت الصين قرابة الستين مليار دولار للاستثمار بالبنية التحتية في باكستان، ولكنّ مشاريعها تعرّضت للرفض من قبائل تمر بها، والإرهاب من جماعات مسلحة، والفساد الإداري، والتقلبات السياسية. والمشكلة نفسها ستواجه خطوطها عبر إيران والعراق وسوريا. وعلى هذا فَقِسْ مشاريع الطوق البحري في بعض البلدان التي سيمرّ بها.
 
وفي المقابل، سينطلق مشروع طريق البخور الجديد على مسار مختلف. المسار التاريخيّ كان يمرّ من الهند عبر بحر العرب، ويفرّغ بضائعه في اليمن. وينطلق براً إلى مكة ومنها الى الشام. أمّا الطريق الجديد فيربط موانئ الهند بميناء جبل علي، ثمّ تحمله القاطرات برّاً عبر السعودية إلى الأردن. والشبكة الحديدية السعودية جاهزة، ولا تحتاج إلّا الربط بمنفذ الإمارات.
 
ولأنّ المشروع برّي في مجمله، فقد سمح بأن يشمل شبكة أنابيب لنقل النفط والماء وكابلات لنقل الكهرباء والبيانات، إضافة إلى الاستفادة من المجمعات اللوجستية القائمة والجاري العمل على بنائها في الإمارات والسعودية. ومن المرافئ والمطارات والبنية التحتية المتطورة في جميع المحطات التي يمر بها الطريق.
 
 
ويتميّز المشروع الهندي، السعودي، الإماراتي، بدعم ومشاركة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وفرنسا وألمانيا وإيطاليا له. وبالتالي، يتوافر التمويل الكافي، والدعم الحكومي المشترك من بلدان مقتدرة، ومتصالحة، وآمنة، ومتطورة. ولذلك، يتوقع للمشروع البدء الفوري، كتخطيط خلال الأشهر القادمة، وكتنفيذ العام القادم، 2024، والاستكمال خلال سنوات معدودة.
 
لا أرى سبباً للقلق الصيني، وإن كنت أرى أسباباً للاستفادة من تجربة المشروع المنافس. المطلوب في المؤتمر الصيني القادم ليس كسب التأييد والدعم لمشروع يحمل بذور تعطيله، وإنّما العمل على تدارس التحديات، وعدم التردّد في تعديل الخطط والمسارات وتحديثها بواقعية جيوسياسية ألفناها من القيادة الصينية في العقود الأخيرة.
 
كما لا أرى مانعاً من تقاطع وتكامل الطريقين، طريق البخور ودرب الحرير. فالجزيرة العربية، بموقعها الجغرافي المتوسط للقارات الثلاث، آسيا وأفريقيا وأوروبا، وبما بلغته بلدانها من تطوّر يضاهي ما وصلت إليه الصين ودول الاتحاد الأوروبي، لا يمكن تجاوزها التزاماً بمسارات طويلة، معقّدة، وغير جاهزة أو آمنة. وإذا كان طريق البخور يصل أوروبا عبر فلسطين، فبالإمكان أن يصل درب الحرير عبر مصر إلى القارتين الأوروبية والأفريقية.
 
الصين موطن حكمة، والحكمة تقتضي التكيّف مع مستجدات الأحوال، والاستفادة من الفرص المتاحة، والتعامل بواقعية مع التحديات. والسعودية والإمارات والأردن، شركاء استراتيجيون للصين، ويقدّرون صداقتها ومصالحهم معها. وفي الوقت نفسه، هناك مصالح وطنية وفرص دولية لا تعوّض، ولا تُهدر. وفي ظنّي أنّ الأبواب ستبقى مفتوحة لكلّ المشاريع الرائدة والمبادرات النافعة التي تعرض عليهم، بما فيها خارطة طريق جديدة تشملهم، ولا تتجاوزهم وتتفاداهم.
 
 
@kbatarfi
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم