الخميس - 09 أيار 2024

إعلان

"طائر الهامة" لجميل الدويهي: نبتة برغم الأشواك

المصدر: "النهار"
طائر وجناحان.
طائر وجناحان.
A+ A-
عماد فغالي
 
عرفتُكَ يا سيّدُ تحصد ما زُرعتَ فيه. وإن اقتلعتَ ذاتكَ إلى الهجرة البعيدة، إلّا أنّكَ غائصٌ دائم ومتمكّن في الجذور التي أنبتتْك، رغم الأشواك التي تغمر الطرقات!
 
"طائرُ الهامة"، تلكَ روايةٌ من قلبِ مجروحٍ بالحرب، بحربةِ الإنسان الموبوء بالوهم: وهم البطولةِ الكاذبة، ووهم الكرامة المفقودة على فوهات الحقد والشرّ، منقادًا إلى ترّهاتٍ دُعيتْ حقًّا أو أمنًا أو انتماءات!
 
طائرُ الهامة، الذي هام على السياق، سرّع تدفّقَ الأحداث في يراعِ الراوي، حسبُه يفرغُ من سردٍ يقلبُ نفسَه تقيّؤَ مرارات!
 
مشهديّةٌ قد تبدو للوهلةِ الأولى تقليديّة. عالجها الكتّاب والروائيّون، خصوصًا في لبنان فترةَ ما بعد الحرب المشؤومة، تسليطَ الضوء على تداعيات المرحلة ومسلكيّاتها الشائنة. لكن أن يعالجها جميل الدويهيّ، الذي يهيمُ في القيم ويسلكُ في الإنسانيّة، فتأخذ صورةَ الدعوة النبويّة...
مرسَلةٌ تعلو إلى قامة الإنسان في قيمته، بل في حقّه الحياةُ الحرّة من بائد الموروثات! هاكَ صراعٌ ناشبٌ استدامةَ التباين بين الأجيال، اختلاف المنطق السائد حول المسألة الواحدة، وجهةَ نظرٍ تأخذ منحى المعتقد... كم تؤتي مساوئ!
 
 
 
الصورةُ الأجمل في الروايةِ طرًّا، تغليبُ الحبّ على المشهديّة القاتمة عمومًا، كأنّما يومٌ مغلّفٌ بالغيم بالضباب، تخرقهُ شمسٌ ساطعة، تخرقُ إلى مساحاتٍ وتُفعمُ الأملَ كلّ انشراح!
هذا الحبّ في السياق بين البطلين، الطبيبُ في عمقه الإنسانيّ قبل مهنته، والفتاة التي رافقها طبيبًا في العلاج، والقوّة التي دفعتْ به إلى الانبثاق قيصريًّا والعيش رغم كلّ المخنقات. هذا الحبُّ الذي أخذ أرضَه العطشى من أطر الرواية كلّها، التقليديّة منها والخاصّة أحداثًا وتفاصيل، هو نفسُه الذي دفع بالمؤلّف إلى وضع روايته في الشكل والمضمون اللذين قدّمها من خلالهما.
 
جميل الدويهي، الذي عاش وطائرُ الهامة يُنبئه بالشؤم دومًا، عرف كيف يشقّ أكوارًا يخزن فيها أنوارًا تدفق دومًا في نفسه وتعكسُ على وجهه كلَّ جمال. ولم يكتفِ. بل هو يبثّ قبسًا من حبّه وفرح داخله على كلّ معارفه وقاصديه، من دونّ منّةٍ أو عتب... وفي قراءتي هذه دلالةُ الرواية البعيدة، أراها رسالةً أدبيّة في قمّة إبداعها. والأدبُ لا يُكتبُ فقط باليراع، لكن بالدم أحيانًا كثيرة على قرطاس الأخلاق منظومةً قيميّة تقضّ مضاجع الفكر الرخيص، وتؤتي وهجَ الإشراقات العلويّة...
 
"طائرُ الهامة"، إن اتّخذت الروايةُ اسمَه، حوّلتَه من نذيرِ شؤمٍ إلى داعيةِ حبٍّ يرسو على شواطئ بشريّة تستقيه لاهثةً لتروي ظمأً فيها مزمنًا...
 
في مكانٍ ما عبر الحبكة النصيّة، تبيّنَ أنّ كلّ شخصيّةٍ راحتْ إلى المصيرِ الكتبتْه مسيرتُها وأرساه مسلكُها. وهذا فيضُ واقعيّة الرواية. ولكنّ المعاناة عند الشخصيّات تباينتْ في خواتيمها، فانتهت إلى طبيعيّةٍ مرجوّة، ما خلا بضعَ بذور خيبةٍ في بعضها القليل!
 
جميل الدويهي، قرأتُكَ روائيًّا، لتؤكّدَ لي مرّةً جديدة، هذه المرّة مزدوجة، أنّكَ شاملُ الأدب. خضتَ أنواعَ الكتابة بإبداعيّة، وهذا نادرٌ يميّزكَ. وفي كلّها أعلنتَ الكلمة في أبعادها الإنسانيّة المثلى. سيّدي شكرًا لأنّكَ طائرُ الهدى، في يراعِكَ غصنُ سلامْ، يشقّ البحار يحملُ الخير، ويَنشدُ المراقي... حسبُنا نعتبر!
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم