الأربعاء - 01 أيار 2024

إعلان

"حياة عميقة" في طريق العودة إلى الذّات

المصدر: "النهار"
نجم الدين خلف الله
غلاف الرّواية.
غلاف الرّواية.
A+ A-

في رواية "حياة عميقة" للصحافيّ التونسيّ المنجي السعيدان، والتي صدرت في هذه الأيام عن دار "نحن"، تنجزُ سَفراً قاصِداً، تَظنُّ أنَّكَ سَتَعبرُ منهُ إلى سيرةٍ ذاتيّة، يَرويها على مسامعكَ هذا المولود الجديد، فارس، منذ أن نَزَل إلى العالم بآلامٍ، حتى كاد يَقضي على أمّه، قبل أن تدركه يَدُ العناية، فيثبت وينمو وَسَطَ الضّياع والمروج، في الشمال الغربيّ من البلاد التونسيّة. وقد تَظنُّ أنها "قصة واقعيّة"، كرائعة البشير خَرّيف، "الدقلة في عراجينها"، عن منطقة الجَريد في الجنوب التونسي، تَرسمُ لكَ لوحاتٍ عن نَمط العيش وطرائق الوُجود على الأرض وبين فئات المجتمع، إبّانَ فترة حرجة من التاريخ الوطنيّ.

ولكنكَ، عندما تتقدّمُ في القراءةِ وتُعيدُها، تدركُ أنَّ نصَّ "حياة عميقة"، لا ينتمي لا إلى هذا ولا إلى ذاكَ، ولكن إلى كِلَيْهما، بعد تعديلٍ وتصرُّفٍ،أجراه الروائيّ والصحفيّ التونسي المنجي السعيداني باقتدارٍ، حيث افتتَحَ روايته بميلاد فارس، هذا الذي أرادَ له ذَووه أن يَتَألَّق في ساحات المعرفة، يواجه الجَهل بالقلم والفكر.

الجهلُ، هذا الداء الذي طغى على البيئة العائليّة والأوساط الاجتماعيّة، في أحد أريافِنا بالشَّمال التونسي، ولمَّا يُتِمَّ الاستقلال بَعدُ عَشريّته الثانية، ولا بَنى ما أرادَه من التقدّمِ ووعدَ به من "فرحة الحياة". وكأنّما ثَمّة تشابهٍ بين الولادتَيْن العَسيرتَيْن: بلدٌ ينهض من نير الاحتلال بعد أن طَمَس هويَّته وأخلف ما راهن عليه من تحضّر، لتلك المناطق النائية، التي استغلَّ المستعمر أراضيها وانتهبَ خيراتها، دون أن يهَبَ أهلَها ما يَستَحقّونه، وبين طِفل يانع، فارس، الذي بدأ ينمو شيئًا فشيئًا، وسط أحاديث الحيّ ومهاترات الكنَّات الثلاث، زَوجات الأعمام وتعليم الحَسَنَيْن، أستاذَيْ العربيّة والفرنسية، فيَصمد حتّى ينال شهادة "السيزيام"، إحدى أهم مفاتيح الرقيّ الاجتماعيّ، تلكَ التي تَفتح الآفاق أمام الدراسة في المعهد الثانويّ ومنه في الجامعات بما تومئ إليه من بلوغ عالَم العاصمة، بجنِّها وملائكتها.

نما البلدُ كما يَفَعَ الصبيّ، وسط تَشابكٍ عنيفٍ للمَصالح وتداخل لافتٍ لِمَناطق النفوذ، بين ثلاثة شيوخ يمثّل كلُّ واحدٍ منهم وجهاً من وجوه التسلّط، ضمن البيئة الريفيّة: الأول، وهو الحاج عامر، ويستدعي السّلطة الإقطاعيّة بما توفّره من نفوذٍ ماليّ وعائليّ، إلّا أنها تبدو هنا سلطةً متداعيةً متهالكةً، التَقتْ عَليها أسباب الضَّعف، من كلّ جهة: فعامر لم يُفلح في تَربية الأبناء الذين تجرّأ أحدُهم على معاقَرَة الخمرة جهراً، كما أنَّ جوائحَ الطبيعة لم تترفّق به، فقد هَجَم الجَربُ على قطعان الأغنام التي يَملكها، ولم يُبق منها إلاَّ القليل. ومن الطريف ما رسمه الكاتبُ من غرائب علاقته بجاره النّوري، رسماً يعكس الكثير من جوانب السّلوك الاجتماعي وتأثير العقليات الريفيّة فيه، ومن ذلك رفضه (أي: الحاج عامر) أن يعتليَ كلبُ النوري كلبتَه، بما يوحي به ذلك من إهانة وتغلّبٍ لا يقبلان. فما كان منه إلا أن ضَحَّى بها ونَقلها إلى أقرَب قرية حيث تَركَ سبيلَها سائبة مهجورة.

وأكثر ما أزعج عامراً هو مناكفة الشيخ حسين، والذي يمثل "الشُّعبة"، فَرع الحزب الحرّ الدستوريّ، حزب الزعيم بورقيبة العتيد. والذي تجسّد أكثر ما تجسّد كخليّة للمراقبة والوشاية، ديدنها "تَقييد الأحوال" ونقلها للسّلط العليا، حتى تسجّلَ أهدافًا ضد المناوئ والمساند، على حدٍّ سواء. وبين الاثنَين، يقع الحاج الطاهر الذي يرمز إلى السلطة الدينيّة، وقد تهاوتْ، هي الأخرى، بفعل السياسة العلمانيّة التي انتهجها الرئيس بورقيبة، في محاربته لأشكال التخلّف والرجعيّة. فَلم يملك المسكين إلا التّصريح بفتوى موازية، حمّالة للمعاني، تجنّبه المواجهة، ثم اقتَصر نشاطُه على الإنشاد الصوفيّ في المناسبات المُفرِحَة، وهذا مجال الحركة الضيق الذي جادت به عليه السياسة.

إذن، يتنافس هؤلاء الثلاثة في بَسط نفوذ متآكلٍ على كوكبةٍ من الشخصيات العديدة التي حَفَلت بها الرواية وتحركت في أرجائها، حتى لكأنّ القرية بأسرها خضعت لريشة الروائي، تقع كلَّ مرّة، على أحدها، فتصوره وتتابع منه الملامحَ، ثمّ لا تلبث أن تخرجها من دائرة الضوء، فلا نعود نَراها، أو هي تظهر من جديد خافتةً مغمورة: ومن بين هذه الشخصيات الكنّات الثلاث، ومعهنّ أزواجهن والجيران، وكذلك بعض الحيوانات.

فقد كان للأليف منها أسماء، تَجعلها قريبة من عالَم بني الإنسان وتشكّل منه جزءً لا يتجزّأ، عبر حضورها المكثّف في مراحل السرد. فمنذ البداية، تفاجئك الكلاب الثلاثة، رياش وصخاب ومرجان، وهي تعلن مرافقة القطيع إلى الغابات المجاورة، ثم تغيب لتظهر من جديدٍ في النهاية، وهي تَنهش لحومَ الجثث الملقاة قرب سطور التين الشوكي. وثمّة الغزلان والقطعان والحمير، لأنها جميعاً جزء من هذا العالم الرّيفيّ حينَ تَكون في عافيةٍ من أمرها، ماشيةَ خيرٍ وبركةٍ، وحينَ يَستفحل فيها الداء، تَكون وبالاً يقضي على المَسرّات.

وبين هؤلاء جميعًا شبكاتٌ من العلائق، تقوم تارةً على التنافر وتارةً على التواصل والتواد، وقطبُ الرّحى منها هذه الأمّ الكبرى التي تحقق التوازن كلما اختلَّ، وتعيد النظام حين ينفرط عقدهُ، إمرَأة قوية تنطوي فيها حكمةُ القرون وتجارب الأجيال، متانة الجسد الذي يعبر العقودَ ويحافظ على جاذبيّته، جاذبية العقل في إدارة الرجال وإصلاحِ ذات البَيْن، حين يَفْسُد الودّ.

وأمّا لغة هذه الرّواية فَسِجِلٌ حافلٌ بالإحالات على الأوساط الريفيّة وما ينهض فيها من الأشياء والأدوات والمرجعيّات، تتراصف الكلمات فيه لتشكّل ما يُشبهُ مَوسوعة مصغَّرة تَستعيد عشرات الأجزاء والتفاصيل من تلك الأوساط، بعد أن عَرَفت تحولاتٍ متسارعة، فبَدَأت منها أشياء تتلاشى وأخرى تظهر. وقد أوردها الروائيّ باللهجة المحكية كمفردات: تقريطة، مَرَمَّة، صرّة، لزوم...، وهذا من صِدق الاختيارات المعجميّة التي تكثّف الإيهامَ بالواقعيّة مع أنها اعتَمدَت، في الكثير من الفقرات، الرَّسم بالكلمات التي تَتَقاطع في مدلولاتها الأبعاد الاجتماعيّة والعاطفيّة والدينية والسياسية، ولاسيما حين تصوّر بعض العادات والمعتقدات المحليّة،عبر حوارات طريفة تُشير إلى سرّية الصوم إثر قرار بورقيبة أو إلى التعبير عن رغبة إنجاب الإناث، بل وتمنّي ذلك، على نُدرته، خلافاً لما كان رائجًا في الأدب التونسي، وتسجيل المنحى الإصلاحي ذي المرجعية الدينية في بعض المسائل الخلافية مثل التعامل مع المرأة والتصرّف في القرابين وكذلك نشوء بوادر معارضة سياسيّة خافتة لسياسات بورقيبة.

وهكذا، يستوي النصّ بمثابة مرآة تستعيد، بأقدار مختلفة حسبَ ما يسمح به الفنّ الرّاوي، صورةَ هذا المجتمع المتحرّك بأشيائه اليدويّة وعاداته الريفيّة وتحولاته السياسيّة في انسيابٍ لطيفٍ، يَجعلك تعاشر هؤلاء الأقوام وكأنهم منكَ. إذ في الأثر ذِكْرٌ لعَشَرات العادات والتقاليد والأعمال التي كانت منتشرة في تلك الأوساط، تأتي عليها ريشة الروائي في انسيابية دون تصنّعٍ، مما يجعَل النصَّ مجمعاً للتقاليد والعبارات المحكيّة، تأريخًا لمرحلة مهمّة في رصد تحولات القرن الماضي.

ومع ذلك، ففي القصّة جانب غرائبيّ لا ينكر، وهذا أيضاً من مظاهر المخاتَلَة، وقد تَجسّد من خلال رقصات حمودة على وقع الفرقة الموسيقيّة بتفاصيلها، و"كفاءات الدكتورة شلبية" وطريقة تطبيبها في إزالة الدمّل، فضلاً عن يَحيى العايب وفلسفته في الحياة، وضرب حمّة الراعي للبندير كلما جَدَّت خلافات بين الكنات، وهي مَشاهد تمتح في ذات الآن من معين الأدب الفكاهي، الذي انتَهَجه الكاتب التونسي علي الدوعاجي، ومن تراث الصور الغريبة التي تستدعي قُوى ما وراءَ الطبيعة وتُقحمها في مشاغل الناس وصَبَواتهم.

هذا، وقد نُقِلت هذه اللُّحمة من المشاعر والأطوار والأحداث عَبر عيون فارس وآذانِه، بشغَفٍ وسؤالٍ، سَرَدها علينا ضمن سِلسلة حَدثيّة متينة، تمتد تقريبًا من سنة 1960 حتى سنة 1972، تاريخ حصوله على الشهادة. وقد تصنعُ هذه البنيةَ أحاديثُ جدته، الأم الكبرى، وهي تَشرح ما كان غامضاً منها، وتَعرضه من وجهة نظرها، وكذا تَفعل سائر الشخصيات المحيطة به، فَيستعيدها ذكريات أو يأمل منها أحلامًا، كانت خاتمتها رسالة غراميّة، كشفت عمَّ يعانيه من حب الصبا وهنيمات الطفولة، غيْرةً وتوجسًا وانبهارًا، وكذا شأن العاطفة في كل أطوار الإنسان النفسية والذهنيّة.

هكذا، نسير مع رواية "حياة عميقة" في طريق عودة إلى أعماق الذات وثناياها، ذاتِ كلِّ واحدٍ منّا. تُخاطبُ، عَبرَ قصَّةٍ مَحليَّة مَرسومة في الزمان والمكان، البعدَ الإنسانيّ لدينا وتلامس أوتارنا الكونيَّة وأبعادنا المطلقة: ذِكريات الصِّبا التي تَنساب رقيقةً، وتنحدر بنا نحوَ صور الذاكرة القابعة في ماضي الطفولة العذبة، كمعشوقَة الشابّي، تنساب كلماتٍ "كاللحْن، كالصّبح الجديد". لكنْ، في كل سطرٍ، ألَمٌ وتَحدٍّ ونزوع إلى التغيير... إسرَاعاً نحو المدينة، تلك التي كانت قصيّةً مخيفةً، بَعد أن زُرعت أولى بذرات الصمود في مهجة فارس، هذا "الشقي العنيد".

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم