النهار

البندقية 79 – "الأرجنتين، 1985": عندما تسقط الديكتاتورية بالكلمة!
هوفيك حبشيان
المصدر: "النهار"
البندقية 79 – "الأرجنتين، 1985": عندما تسقط الديكتاتورية بالكلمة!
فريق المدعي العام الذي يسابق الزمن لمحاكمة الطغمة العسكرية.
A+   A-

البندقية - هوفيك حبشيان

 

بعد "لا كوردييرا" الذي كان فيلماً سياسياً واضح التوجّه، يعود المخرج الأرجنتيني الشاب سانتياغو ميتري إلى السينما بـ"الأرجنتين، 1985"، فيلم جماهيري عريض، حاملاً قضية مهلمة. بعد كانّ، يحط في موسترا البندقية التي ضمت فيلمه إلى مسابقة الدورة التاسعة والسبعين (31 آب - 10 أيلول). الفيلم يتناول فصلاً من فصول التاريخ الأرجنتيني، ذاك الذي كان للعسكر السلطة المطلقة فيه، فتحولت إرهاب دولة ضد المدنيين المعارضين بعد استيلاء أصحاب البزات الزيتية على مقاليد الحكم نتيجة الانقلاب على إيزابيل بيرون المنتخبة ديموقراطياً. انها الديكتاتورية العسكرية التي أغرقت الأرجنتين، كما العديد من دول أميركا اللاتينية، في البطش والعسف والظلم طوال ثماني سنوات، من 1976 إلى 1983، وأطلق عليها المجلس العسكري آنذاك تعبيراً يخفف هول الجريمة هو "عملية اعادة التنظيم الوطنية".

 

تلك الحقبة التي ولد فيها ميتري ونشأ، تركت خلفها ضحايا ومآسي عائلية كبيرة: آلاف المفقودين والمقتولين رمياً بالرصاص والمنفيين والمسجونين. هذا فضلاً عن أطفال انتُزعوا من أهاليهم، لتربيتهم في عائلات مقربة من السلطة التي حكمت بالعذاب والقهر. صفحة سوداء يعود اليها ميتري اليوم في فيلم ملمّ بالتفاصيل يستند إلى معطيات، ويرد الاعتبار إلى الضحايا رافعاً شعاراً قريباً من شعار ذكرى الحرب اللبنانية، "تنذكر وما تنعاد"، مع الفرق ان الأرجنتين سلكت بعد تلك الحقبة درب الديموقراطية ولا يبدو ان العودة إلى الخلف ممكنة.

 

 
(ريكاردو دارين في دور المدعي العام ستراسيرا).
 
 

يعرف ميتري دور الذاكرة في تمكين ثقافة الشعوب ووعيها. في حديث لي مع المخرج التشيلياني باتريسيو غوزمان، كان يقول ان الذاكرة في التشيلي معدومة. ميتري أكثر حظاً منه. نعود إلى غوزمان الذي يقول: "في بلادنا، لا نتكلّم عن الماضي إطلاقاً. الماضي لا يشهد أيّ نقاش، كأنه غير موجود أو لم يحصل. هناك نكران رهيب في هذا الصدد. المرتكبون لم يعترفوا يوماً بمسؤولياتهم تجاه كلّ ما حصل في الحقبة الديكتاتورية. هناك ما يشبه "عُرْف الصمت" (يستعمل كلمة "أوميرتا" الخاصة بالمافيا). مثلاً: مئات المدنيين شاركوا في الفصل الذي أصوّره حيث نرى انتشال الجثث التي رُميت في قعر البحر. لا أحد من هؤلاء المدنيين تم اقتياده إلى القضاء أو محاسبته لاحقاً".

 

بناءً على كلام غوزمان الذي عاش تحت رحمة بينوشيه، كانت الأرجنتين أكثر حظاً من التشيلي في هذا الصدد. في العام 1985، أقيمت محاكمة للعسكر فتمت ادانتهم بجرائم حرب وابادات جماعية. الفيلم يعود إلى تلك المحاكمات. لا يجسّد الحقبة الدامية وما جرى فيها من ممارسات شنيعة، فهو لا يهمّه تأكيد المؤكد، انما يعرض مفهوم المحاسبة والعدالة والتداعيات السلبية لغيابه في المجتمع، الأمر الذي يدركه جيداً بعض اللبنانيين المقيمين في بلد لا يحاسَب فيه المسؤولون عن خرابه. ما سنتابعه طوال ساعتين وثلث الساعة هو العدالة التي ستأخذ مجراها رغم أنف التهديدات والتحالفات والعراقيل. آلاف الضحايا سيتكلّمون أخيراً بعد منحهم منبراً للكلام، وذلك بعد سنوات من الصمت. ستسقط الأقنعة عن وجوه الكثيرين ممّن كانوا متعاطفين مع العكسر، من فاشيين صغار إلى فاشيين كبار. لن يتم اللجوء إلى العنف والضغينة والتصفية الجسدية المضادة، بلّ سيتم انتزاع الحق تحت سقف القانون وأمام عيون الجمهور المندهش من الشهادات التي ستكشف جرائم الطغمة العسكرية الحاكمة المتمثّلة في تسعة من أصحاب القرار وعلى رأسهم خورخي فيديلا.

 

("الأرجنتين، 1985" لسانتياغو ميتري). 

 

هذا كله يحتاج إلى شخصية كاريزماتية، يتوحد معها المُشاهد. والفيلم يجدها في المدعي العام خوليو ستراسيرا (ريكاردو دارين) الذي سيعمل ليل نهار في سباق محموم مع الزمن لجمع الأدلة والمعلومات وفتح الملفات بهدف رمي المتهمين في السجن، علماً ان بعضهم لن ينال العقوبة التي يستحقها. ستراسيرا شخصية يعاينها الفيلم طولاً وعرضاً، فيدهم بيته لنرى تعامله مع أسرته ونكتشف شؤونه الصغيرة التي ترسم بورتريهاً لرجل نزيه، لديه شكوكه ومخاوفه بلا شك، لكنها تختفي أمام اصراره وتعنته ونظافة كفّه. في البدء يرفض الحماية، لكن عندما تزداد وتيرة التهديدات لتطال أفراد عائلته، يذعن للأمر الواقع. لستراسيرا أيضاً مساعد شاب طموح يُدعى لويس مورينو (خوان لانزاني) سيشكّل دعماً معنوياً استثنائياً له، وسيكون ذا فائدة كبيرة لتجاوز عدد كبير من التحديات، أبرزها محاولات احالة المتهمين على المحكمة العسكرية بدلاً من المدنية، وهذا مطلب العسكر أنفسهم الذين يعلمون جيداً ان الأمور ستمشي هناك على هواهم. ومع ان إتجاه الرياح يعاكسه، سينتصر ستراسيرا على الشر، وذلك رغم تغلغل الفاشية في كلّ مفاصل النظام القائم.  

 

لحظتان بديعتان تعبران الفيلم: شهادة أم تروي في أي ظروف وضعت مولودها، والمرافعة الأخيرة لستراسيرا التي يمكن اعتبارها بياناً تأسيسياً لقيمة العدالة. بالكلمة والكلمة وحدها، يخوض الفيلم احدى أشرس المعارك ضد العنف والظلم، مؤكداً ان تأثيرها لا يزال كبيراً في المتلقي. صحيح ان الفيلم يغازل ما يريده المشاهدون، من لغة سهلة فمحاولات كثيرة (ناجحة) لبثّ الروح في البطل على طريقة بعض الأفلام الهوليوودية، لكن هذا كله يخدم نصّاً متماسكاً إلى حد كبير يقول ما لا يختلف عليه إثنان عن العدالة والقيم الإنسانية. 

اقرأ في النهار Premium