الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

البارحة كان هنا

المصدر: "النهار"
مصطفى علوش
البارحة كان هنا
البارحة كان هنا
A+ A-

البارحة فقط، كنت أسافر من دمشق إلى سلمية، لأسلّم على أمي وأبي؛ الأم التي كانت تسقي العمر بالانتظار، والأب الذي كان يزيّن حياته بالعتابا.

لأجلهما، ولأجل حفنة من الأصدقاء، كنت أسافر من دمشق إلى مدينتي لأراقب كيف تغنّي نجوم الحياة وكيف يفكر الشارع والرصيف والشجر.

حين كنت أغفو على سرير العمر الفقير، كنت أردد ما كنت أحفظه من قصائد منذر شيحاوي.

البارحة، تحدثتُ مع ذلك الصديق العتيق الذي كسروا له أسنانه وبعض أضلاعه في حفلة تحقيق وطنية منذ أعوام عدة؛ ذلك الصديق النقي الذي ساهم "في وهن نفسية الأمة"، فصادروا له راتبه. حكى لي عن العشب الأخضر والحرية وقصيدة بيروت لمحمود درويش. في نهاية الحديث، بكينا معاً ونحن نغنّي "هات إيدك يا خيي هات يا ما قضينا ويلات".

البارحة أيضاً، شرحت للمدرّسة الألمانية في الجامعة كيف يتم الفساد في الوطن، حيث يوظف رئيس التحرير الحسنوات القادمات من حقول الفقر الوطني - حسنوات نعم - حتى تنفتح شهية رئيس التحرير الكتابية فيشرح للعالم كل خطوط المؤامرة الكونية، وفي آخر الليل يرتشف قهوته مع إحدى الحسنوات القادمات من حقول الرعب ثم ينام معها.

البارحة، حين كنتُ أبكي وحيداً في غرفتي الحزينة. كتبت في صفحة الضياع أنني كنت سأقبل بغرفة تراب يتيمة وبرغيف خبز، لو كان في إمكاني متابعة العيش في وطن لا يحرق أطفاله بالرعب والفقر والجوع.

البارحة فقط، شاهدت ما حكاه الممثل السوري النجم الوطني الذي فضّل البقاء في الوطن. سمعته جيداً وقرأت في عينيه مدى الذعر وهو يتحدث عن فساد وزارة الثقافة ونقابة الفنانين. حين انتهى من الشرح ضحكتُ منه وعليه، وبكيتُ منه وعليه. أعرف أنه البارحة وفي الغرف المغلقة يكون قد تحدث بكلام آخر، أعمق وأجرأ وأصدق، عن أصل الفساد والبلاء في البلاد.

البارحة، كنت وحيداً أداعب الوقت وأرشوه كي لا يهرب. كنت أفكر باكياً بكاتبة نجمة تصمت طويلاً عن وطن منهك وبلد مذبوح اسمه سوريا، كاتبة عريقة تعملتُ منها كيف تكون الجرأة وكانت مؤلفاتها تملأ روحي بالصدق والجمال.

البارحة، وأنا أقلب عمري، تذكرتُ أنني "قطعت" الخمسين بأربع سنين، وذلك حين خاطبتني صبية سورية في عمر العشرين قائلةً لي: "عمو".

البارحة، كنت أعزف وحيداً على آلة الانتظار، وأفكر في اسم الدولة ومعناها ومبتغاها؛ الدولة التي نصرّ على وجودها، بينما هي تصرّ على أنها عبارة عن عصابة كبيرة محمية من عصابات أكبر.

البارحة، أحرقتُ كل الكتب التي قرأتُها، وأنا أحاول فهم كيف يمكن تقطيع صحافي بالمنشار، وكيف يُذاب مُعارضٌ بالأسيد، وكيف...؟

البارحة، شعرتُ بأن السياسة والسياسيين العرب يشبهون السموم تماماً.

البارحة، أغلقتُ صفحة الـ"فايس بوك"، وفتحتُ قلبي لموسيقى صالح عبد الحي، زرعت في الروح وردة وفي القلب أملاً، وحين أغلقتُ باب اليوم الأخير، جاءني صوتها من بعيد وهي تقول: تلك هي الحياة أيها الأحمق.

البارحة، وأنا أحاول نسيان كل شيء، تذكرتُ صديقي الذي يحيي الأمل في قلبي كلما هاتفتُه من هنا، صديقي الذي لا أستطيع ذكر اسمه هنا، لأن "الأمن الوطني للدولة" قد يتهدد بسبب اسمه، فهو يزرع الحب والثقة والطيبة أينما سار واتجه. صديقي الذي يحب شعر رياض الصالح الحسين، يضحك طويلاً كلما حدثتُه عن "الإرهاب" الذي يمثّله، هو وأمثاله من السوريين الرائعين.

البارحة فقط، أغمضتُ عينيَّ ولم أنم، لأن خمسين سنة لا يمكن أن تمحوها بجرّة قلم جهاز مخابرات "وطني".

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم