السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

حتى لا تبقى البلديّة على صورة الطبقة السياسيّة

المصدر: "النهار"
ميشال عقل- مهندس
حتى لا تبقى البلديّة على صورة الطبقة السياسيّة
حتى لا تبقى البلديّة على صورة الطبقة السياسيّة
A+ A-

تُشكّل البلديّة موضوع اهتمام جدّي من غالبيّة اللبنانيين أكثر ممّا تستنهضهم أيّة مرافق أو مؤسسات أخرى. وهذا يعود لسبب جوهري يتعلّق بارتباط المواطنين ومصالحهــــم بهذه الحكومة المحليّة وأدائها وخدماتها.


هي الإدارة المباشرة للخدمات العامّة والإنماء المحلّي في مختلف ميادين الحياة والعمران والمجتمع والثقافة والبيئة والإقتصاد والصحّة... وهي المجال الأوّل لإرساء الحياة السياسية وممارسة الديموقراطية، باعتبارها الأساس في عمارة الديموقراطية، الأقرب لاختيار النخب وامتحانها وتجديدها.
من هنا أهميّة وجود مجلس وإدارة بلديّة، على درجة عالية من الكفاية والخبرة قادر على التعبير عن مصالح الناس وحقوقهم وطموحاتهم خلال التواصل والبناء والتنسيق المستمر معهم. والبلديّة بحسب القانون سلطة معنويّة وإدارة مستقلّة مُنتخبة بالاقتراع المباشر، خارج القيد الطائفي، تقوم بموجب القانون بأدوار تمثيليّة وإداريّة وخدماتيّة وتنمويّة. هي إذا تُجسّد بامتياز فكرة اللامركزيّة فيما تمثّل الدولة عبر مؤسساتها ووزاراتها وأجهزتها، بإدارة موظفين تُعيِّنهم، فكرة المركزيّة ومصالحها.



وقانون البلديّات الصادر سنة 1977 والذي يتطابق مع التعريف الوارد أعلاه وتفصيلاته، أَوْكَل هذه المهمّة الكبيرة لإدارة الشأن العام والخدمات المحليّة والتنمية الى الحكومة المحليّة، وقد خصَّ بموجب القانون رئيسها ومجلسها بأوسع الصلاحيات في التخطيط والتقرير والتنفيذ، لكنّه أفسدها بتقييده البلديّة بسلسلة من القيود. أوّلها سلطة الوصاية، أي وزارة الداخلية، التي هي وزارة أمنية بامتياز، وليس لها علاقة من حيث طبيعتها واختصاصاتها بالبلديّة. وثانيها ربطُها بوزارة المال عبر المُراقب المالي والصندوق المستقل للبلديّات (الصندوق يمثل حوالى 50% من الواردات المالية للبلديات)، وثالثها اتحاد البلديات وأجهزته، الذي يفترض فيه وبحسب القانون نفسه، أن يكون سنداً للحكومة المحليّة في كل ما يعود للمشترك بين البلديات وما تعجز عن القيام به بمفردها.



المعوّق الأبلغ الذي يُناقض مفهوم البلدية ودورها، ويحول دون تطورها وقيامها بمهماتها من لحظة ولادتها، بُنيويٌّ بامتياز، ويأتي من القانون الذي ينصّ على تشكيلها حصراً من المنتخِبين المقيَّدين في سجلات نفوس النطاق البلدي. هذا الأمر قد يكون مناسباً وسليماً في ما يعود للبلدات والقرى الصغيرة قبل التبدلات السكانية والنزوح الى المدن الذي تعاظم في السنوات الأخيرة لا سيما أثناء الحرب اللبنانية 1975 - 1990 وبعدها. أما اليوم فقد أصبحنا في ديموقراطية الأقليّة، ديموقراطية الـ 10 في المئة وما دون خصوصاً في المدن والبلدات الساحلية وفي مراكز الأقضية والمحافظات وسواها، بعد أن أصبح عدد المُقيَّدين نسبةً الى السكان يقلُّ عن الـ20 في المئة في غالب الحالات. فآلت كل البلديات المنبثقة عن هذا القانون، حتى في المدن، الى العائلات والطوائف والمذاهب ولا تمثّل مصالح السكان والمستثمرين مُسددي الضرائب والرسوم لأنهم لا يشاركون في صناعتها. هذا القانون بحاجة لإعادة تكوين ليس فقط بسبب مُعوّقي الوصاية وسوء التمثيل فحسب، إنما أيضاً بسبب من تخلفه عن التطور الطبيعي. وهو جاء أساساً يُخالف "وثيقة الوفاق الوطني" التي كانت أكثر استشرافاً وطالبت "بتعزيز البلديات وتقوية اللامركزيّة الإدارية وربطها بالإنماء الوطني المتوازن... وإنشاء مجالس أقضية...". إن مرور الزمن وتطور الدور الذي ينبغي أن تقوم به البلدية وتبدله، وتغيير المفاهيم في ما يتعلّق بالتنمية المحليّة، والتوجه عالمياً نحو اللامركزية، وبسبب من نزوح السكان والأعمال نحو المدن وحولها، وتفاقم المشكلات الحضرية وتعقيداتها... كل ذلك يفرض إعادة نظر جذرية.
ثمّة وعي ملموس على كل المستويات خصوصاً في المجتمع المدني ولدى بعض النخب السياسية الحرّة وفي تجربة وزارة الداخلية، يتصل بضرورة التوجه نحو إنشاء مرجعيّة خاصّة بالبلديّات. ولم يعد من الجائز أن تبقى البلديات رازحة ومكبّلة تحت سلطة وزارة الداخلية ذات الطبيعة الأمنية بامتياز فيما البلدية إنمائية بامتياز. إنّ مسألة إنشاء وزارة خاصة بالبلديات، أمر واجب لأيّ إصلاح... مرجعيّة جديدة تُناط بها، أعمال مواكبة العمل البلدي وتوحيد آليات الإدارة وتدريب الكادرات والسهر على تطبيق القوانين... "وزارة رعاية وليس وزارة وصاية". البلديّة المنتخبة من الشعب بطريقة ديموقراطية لا يمكن ولا يجوز، تحت أيّة ذريعة أو قانون أو عرف، أن تكون للسلطة المركزية تلك المُسمّاة بالتعيين أيَّة وصايةٍ عليها. فلا وصاية على القرار الشعبي والسلطات المنتخبة في أيّة ديموقراطية.



أمّا في مسألة اللامركزيّة فإن الجهود المبذولة في السنوات الأخيرة، على صعيد الدراسات ومشاريع القوانين، قد حقّقت خطوات متقدّمة أبرزها: "مشروع قانون اللامركزيّة الإداريّة الصادر عن اللجنة الخاصة باللامركزيّة الإدارية 2014" التي رأسها الوزير زياد بارود، وهو اقتراح متكامل مدروس أُنجز بالتعاون مع المجتمع المدني وبعض النخب البلدية، وهو حريٌ في حال اعتماده بنقل المجتمع المحلي وحكومته الى رحاب الإصلاح والتطوير والإنماء.
الطبقة السياسية في لبنان لا تزال متمسكة بالقوانين الحالية، وهي تلوكها باستمرار وتنقلها من دُرْج الى آخر، ولا تريد إصلاحها لا على مستوى البلدية ولا على مستوى النيابة والرئاسة وغيرها، لأنّها كما هي، تُمكنها بسهولة من إعادة إنتاج نفسها على كل المستويات ومن دون مخاطر. وقد وجدت في قانون البلديات أفضل وسيلة لاستمرار سيادتها بوصاية الشراكة النفعيّة عليها.
وإذا سألت عن الأحزاب ودورها، فالجواب أن الطائفيةَ منها شريكةٌ بالحصة الكاملة وصاحبة مصلحة أكيدة في الإبقاء على الموجود. أما العابرة للطوائف والعائلات، العقائدية والقومية منه او الاصلاحية، فلم تستطع اجتياز هذا الواقع نظراً الى وزنها في المعادلة السياسية، ولعدم جديتها في الرهان على إحداث تغيير وخروقات في البنى التحتية للمنظومة الاجتماعية المحليّة للمجتمع.



هذا الواقع شذّت عنه بعض البلديات والاتحادات، وهي قليلة جداً (نحو 100 بلديّة من أصل 1013) تشكل استثناءات، حيث نرى بلديات ذات استقلالية وعلى مسافة من الطبقة السياسية، مُحصَّنة بالتأييد الشعبي والشفافية، وقد حققت إنجازات وبرامج مميِّزة. لكن هذه التجارب على مُحققاتها القيّمة والبارزة تبقى جُزراً معزولة ومطوّقة، وليس لها طابع الاستدامة أو القدرة على التمدد، لأنها خاضعة للتبدّل وزوال الأفراد، ولمُتغيرات البيئة السياسية الحاضنة. وفي مطلق الأحوال لا تحبِّذ الطبقة السياسية مثل هذه النجاحات على نُدرتها، وهي تضع لها سقوفاً وحواجز لأنّها في الواقع تُمثل النموذج الآخر النقيض لدورها وتجربتها.
بسبب من هذه المعوِّقات الآتية من القانون والسياسة والادارة، فإن بلديات 2016 ستبقى على صورة الطبقة السياسية مسمّرة في تحالف موضوعي مصلحي يتركز على الزبائنية وتبادل المنافع المادية والانتخابية ولا يمكن التقدم إلاَّ بكسر هذه الحلقة.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم