الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

عن الموسيقي محمود التركماني... خطر لي أن رجلاً عاد ليبنيَ جسراً

المصدر: "النهار"
هشام حلاق
عن الموسيقي محمود التركماني... خطر لي أن رجلاً عاد ليبنيَ جسراً
عن الموسيقي محمود التركماني... خطر لي أن رجلاً عاد ليبنيَ جسراً
A+ A-

يأتيك ذاك القابع في سواد أفكاره، وغرابة جمله الموسيقية، وقساوة الهارموني في مقطوعاته، التي يحب وصفها ساخراً بأنها "مقطوعة من شجرة".

محمود تركماني، في أول لقاء عام ٢٠٠٦ ترك لي جملتين، في جلسة لم تتخطّ الـ٢٠ دقيقة لضيق وقته الدائم، وخصوصاً أننا ذهبنا بصحبة والدي الذي أصر على أن أجتمع بالمؤلف الموسيقي العكاري الأصل (على أساس أن هذا اللقاء سوف يكون بمثابة جرعة من المعنويات لأكمل بها مسيرتي الموسيقية).

٢٠ دقيقة في منزل ذويه في حلبا أثناء تصويره وثائقي "يا شر موت"، انتهيت منها بجملتين:

١- ارجع بالتاريخ واتعرّف على أصلك، مش غلط! بس ما تصير متحف!!

٢- التطوّر، تورُّط!!

بالأمس، وبعد ١٣ سنة من (هالـ٢٠ دقيقة والجملتين)، كانت لي الفرصة لأن أستمع وأتعرّف إلى محمود، الذي كنت ألتقيه وأتحادث معه عبر السكايب في العام ٢٠١٣ عن قصص وخلطات ومشاريع وأفكار وموسيقى وفلسفات، جعلتني أسأل أسئلة لم يكن يفترض أن تطرق دماغي وقتها. محمود ودماغه المتشعب، المتعدد الـ"patterns" والمستحضر فلسفات متعددة، متنافرة، متناقضة مش لبيروت، وجملُه الموسيقية وبُعدها اللحنيّ الغنيّ بالصعوبة، وبالشدّ دون الإرخاء، ليست لغبرة شوارعنا وزبالتها، "مقطوعاته" المقتطعة لا تشبه "قطْعات" الكهرباء في بلدنا.

ما سمعناه بالأمس، من صيغ لحنيّة، ومقطوعات خاصة وغير خاصة، جلبت معها شيئاً من كل الأماكن، أسقطته في بيروت، غيتار، عود، وأسود أسود أسود. موسيقى بـ"العتم"، وتاريخ يلعب على الأوتار.

توتّر محمود الظريف جداً، مع الحرّ الذي كان موجوداً في الصالة بحكم أن صوت التكييف (إن دار) سيكون أعلى من صوت السيارات وعجقة زماميرها.

بين الخيال، والعتم، والأسود، والظل، وهمسات محمود بين كل معزوفة وأخرى، خطر لي أن هذا الرجل، كل شيء بحياته ضرب من الجنون أو هو الجنون بذاته، طبعاً الجنون هنا هو إيجابي جداً و"شي كتير حلو" ما هو الجميل؟ من يحدده؟ من يؤطّر الجنون؟

من تكسير آلات على مسارح أوروبا، إلى إسقاط خشب على المسرح من السقف. من أعمال تأليفية صعبة جداً، كتأليف موسيقي وتجارب وتركيب جمل لحنية وهارموني، من "نقطة" إلى "شر موت" إلى إلى... "هيدا الزلمي" أول مرة يأتي فيها إلى بيروت مستوحداً خشبة المسرح! حاملاً غيتاراً، وعوداً. يرتديه السواد! حتى إنه سمّى العمل أسود أبيض.. كما فعل بيكاسو في زمانه، بيكاسو المعروف بألوانه وخلطاته، وابتكاراته اللونية "الوقحة"، عاد إلى الأسود في فترة من حياته، العودة إلى الصفر.. العودة إلى النقطة، العودة إلى الإعادة، أو لتدمير ما قيل أو لإعادة البناء استناداً إلى ما قيل في السابق.

خطر لي أن ثمة رجلاً عاد ليعمّر جسراً، ليعمّر مدينة. ليعمّر أصلاً جديداً، "بيشبه شي من الأسود"، من بيروت، من بيرن، من موسكو.. من كل دولة قطف منها محمود وزرع فيها.

فلاح حامل عودَه وغيتارَه راجع يفلح فينا.. يفلح بهدف الزرع، وليس (البحش والطم)، وأكيد ليس لإراحة الأرض والنفس بعد فعل الفلاحة.

"يضرب بالنفس وتراً، هذا ليس بمحمود، لا كلام عاطفياً ولا وصف مشاعر ولا رومانسية، الكلمات تشبه شيئاً من محمود، إذ التركماني، لا يأبه للنفس ولا للـethos، يضرب في الدماغ، في الفكر، في الأصل، باستفزاز الجملة اللحنية، بوقاحة الهارمونية، يضرب باتجاه الطريق، يضرب في البحث عن هدف مهما كان، يحرّك فيك حسّ الحماية والاندفاع "الحقيقي" نحو ما أنت تريد، يدفعك لتسأل: "ما هو الحقيقي؟" ما معنى الحقيقة؟

"يا ريت بتضلك ترجع يا محمود. يا ريت ما يوقف ضربك بالوتار، ولا ضربك بدماغنا".

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم