الجمعة - 10 أيار 2024

إعلان

كان صعباً أن أقول: دفنّاها منذ زمن يا أمي

منتظر المحسن
كان صعباً أن أقول: دفنّاها منذ زمن يا أمي
كان صعباً أن أقول: دفنّاها منذ زمن يا أمي
A+ A-

( ١ )

فتحت أمي عينيها على تعب مَن لا حيلة لديه، وبدا من نظرتها أن مكروهاً ما قد وقع عليها.

كانت نائمة في غير موقع، الأمر الذي أخذني في البدء على إيقاظها لتأخذ مكاناً على الفراش. غير أنها لم تحرّك ساكناً.

"في هذا الموضع؟"، سألتها وأنا أمرّر يدي على جسدها الدافئ. لكنها لم تعرف موضع الألم.

حدث ذلك في وقتٍ لم يكن أحدٌ آخر في البيت غيرها.

كان خوف أمي الأكبر هو أن تضع يداً في الفراغ. كان الجدار رفيقها أينما سارت، وكانت تمدّ له يداً. لكنّ أمورًا مثل هذه تحدث حتى مع مراعاة المرء لشؤونه.

عندما زرنا الطبيب أخبرنا أنها أصيبت بكسر في الحوض. تكفّل هو ومجموعة من الممرضات العطوفات في المشفى بإبدال الجزء المكسور منه بآخر من المعدن.

"بالنسبة إلى من هم في حالها، قال الطبيب، لا وجود للحادث العادي، ألف سلامة إن شاء الله". الحقّ معه، قلت في نفسي، ماذا قد يضاف إلى عدم الاتزان في المشي وهشاشة العظام وزيادة منسوب السكّر والأمور الأخرى الكثيرة جداً التي لن تقبل أمّي أن أذكرها.

من ذلك العام وأمي تسير بستّ أرجل؛ أربعٌ من المعدن واثنتان من العظم واللحم؛ إبان سقوطها المؤلم في غرفتها بفعل بعض المياه التي كانت منسكبة على الأرضية.

( ٢ )

عندما استطاعت أمي المشي أوّل مرة بمساعدة أرجلها الإضافية، كان هنالك صوت نقود معدنية يصدر مع حركتها، صوت ينبئ بعدم استقرار الأشياء في مكانها، لكنّه شيء اعتدنا عليه لاحقاً.

وصف لها الطبيب بعض الأدوية وأذن لنا بالعودة معها إلى المنزل الذي ما إن وصلناه إلّا وأملت علينا أمي قرارها الذي لا رجعة فيه بعدم رغبتها في الخروج أبداً. ادّعت أنها تحتاج لنهارات عدة حتى تصل لبيت أختها، بينما الأخرى لا تحتاج إلى أكثر من خمس دقائق. في محاولة أخرى معها اتهمتنا بأننا نحن أبناءها مع حجرٍ في الطريق نخطّط لأن نوقع بها مرة ثانية، "في هذه ستكون نهايتي"، قالت.


( ٣ )

ذات صباح توقفت أمي عند نافذة غرفتها، كانت رغبتها في مشاهدة الخارج موجودة.

"ربما بذلك تعيدين ضبط الوقت" قلتُ. لأنها في الليلة التي سبقت اتهمت ساعة البيت بالعطل. كانت تنتظر دواء العاشرة مساء، رافضة تصحيحي لها بأنها لا تزال الخامسة عصراً.

تلك كانت المرة الأولى التي تطلّ فيها أمي نحو الخارج منذ زمن بعيد جداً لدرجة شعرتُ معها بأننا نحن الاثنين ننظر لمكان زرناه في ما مضى.

وكان طيف الهَدْيَة يُطلّ آنذاك أيضاً.


( ٤ )

لأنّ الطريق إلى باب البيت أبعد كثيراً منه إلى النافذة. كانت جارتنا أم علي الهَدْيَة تأتي للحديث مع أمي تحت هذه النافذة. بدل أن تخرج من أزقة القرية وتستدير لتواجه باب المنزل.

لم يكن العمى مانعها لكن الطريق طويلة.

"كانت أمّ علي جميلة جداً في شبابها، ليتك رأيت تلك العينين العسليتين أو سمعت ضحكتها". وطافت أمّي في تذكّر تلك السنين التي انقضت وقد اكتسب صوتها حلاوة ورقة.

في ذلك اليوم قصّت عليّ واحدة من القصص التي تندمج مع آلام المرء وأفراحه.

"عندما أصابها الجدري، كان الوقت صباحاً، استيقظتْ من نومها متعبة وشاهدت البثور الحمراء الصغيرة منتشرة على كامل جسدها. كان الوباء نشطاً في تلك المرحلة لدرجة أن الواحد منّا أوّل ما ينظر له في الصباح هو جسده. أخذ المرض يتفاقم، لم يكتفِ بترك الندب على جسدها بل مضى ليسلب منها تلك العينين. في اليوم الذي بحثت فيه عن المرآة كثيراً.

كانت تخفي عينيها مستعينة بعباءة الرأس وتمشي دونما رفيق، مُسلّمة على المارة في طريقها. وإذا حضرت في صالة منزلٍ وأطلّ صبيٌّ بدافع الفضول أو لحاجة مناداة أمه، إشارةً تناديه: أدخلْ، فلا غريب في الدار. كان الجميع يشعر بالرضا حولها، وأخذوا يلقبونها بـ الهَدْيَة بعد أن شاهدوا كل تلك المواقف التي دونما إيمان كانوا ليعتبرونها شعوذة".

● لم تعد تزورنا. الحق عليّ.

ثم زادت بشيء من القوة.

● أتعرف ما حالها الآن؟ ينبغي أن نحضر لديها.

كان صعباً أن أقول: دفنّاها منذ زمن يا أمي.

● ليكن في الغد. أجبتها.

( ٥ )

في اليوم التالي رفضت أمي الخروج من المنزل لزيارة الهَدْيَة. قالت إن أرجلها الست تمنعها. لكنها واظبت على فعل ذلك كل صباح، أن تقف عند النافذة وتجول بنظرها على الزقاق. كنت أراقبها كل يوم هناك ولاحظت أن صوت النقود في مشيتها صار أقل، أخذ مخزونها ينفد في وقتٍ كانت هي قابضة على ذكرى وحيدة تجيء دونما رفيق وتفتح لها أمي النافذة.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم