الجمعة - 10 أيار 2024

إعلان

لا انفصال سياحي... بل تباين ثقافي واجتماعي واقتصادي

عبد اللطيف فاخوري
A+ A-

كتب الاستاذ جهاد الزين في "النهار" (7/ 9/ 2013) مقالا بعنوان "الانفصالية السياحية المسيحية" يشير فيه الى المهرجانات السياحية التي شهدتها القرى والمدن المسيحية خلال الصيف الماضي بعكس مدن كبرى غالبيتها اسلامية. وارجع هذه الظاهرة الى عوامل عدة امنية واجتماعية.


علق الاستاذ عبد الرحمن عبد المولى الصلح في 12/ 9/ 2013 على المقال المشار اليه مذكرا بانجازات المسيحيين في الصناعة الفندقية وما يتبعها من مسابح وملاه. ومع ان ما جاء به الكاتبان لا يبعد كثيرا عن الواقع الا ان في الامر اوجها اخرى اردت ان اشير اليها وقد فضلت كلمة التباين على الانفصالية.



* * *


السياحة والسياح من الكلمات الحديثة الاستعمال في لبنان فقد كان الشائع قبلها استعمال كلمات المصايف والاصطياف، والمصطافين.
يمكن اعادة التباين السياحي وحركة تنشيط الاصطياف في لبنان الى سببين الاول فتح طريق الشام (بيروت – دمشق) وتسيير عربات الدليجانس، ثم تبعها انشاء سكة حديد بيروت – الشام فنشأت قرى حول محطات السكك كمحطة بحمدون وصوفر والمريجات وشتورة والقرى القريبة منها. والامر الثاني اختيار المرسلين الاميركيين ومن عمل معهم لسكنهم السفوح من عاليه الى سوق الغرب فشملان وعيناب وعبيه.
وشجع لبنانيان كانا مقيمين في مصر المصريين على الاصطياف في لبنان وهما بشارة تقلا مؤسسة "الاهرام" الذي شجع اصدقاءه على المجيء الى سوق الغرب، وجرجي زيدان مؤسس "دار الهلال" الذيؤ افرد صفحات عدة من المجلات المختلفة التي كانت تصدرها "دار الهلال" لنشر اعلانات ترويج للاصطياف في لبنان. من نصوص تلك الاعلانات "صيفوا في لبنان تجدوا فيه مناظر رائعة وهواء منعشاً لطيفاً. ماء عذباً زلالاً. مواصلات سهلة. اسعاراً رخيصة". ورد في اعلان نشر في "المصور" سنة 1925 بعنوان الاصطياف في لبنان "من العادات الغريبة المستحبة التي اخذت تنتشر بيننا عادة تبديل الهواء وارتياد المصايف الصحية طلباً للراحة والاستشفاء". وأرجع فضل كثرة الوافدين من مصر الى شركة مصايف لبنان التي اسسها وادارها حيدر المعلوف وكان مركزها في القاهرة بشارع نوبار باشا وكانت لها فروع في بيروت – شرقي السراي وفي حيفا ودمشق والقدس والاسكندرية وبور سعيد. ونشرت "الهلال" سنة 1932 اعلاناً جاء فيه "هلموا الى لبنان جنة الله في الشرق" وفيه اشارة الى اسعار صيفية مخفضة بقطارات وسيارات سكك حديد فلسطين.وتأسست جمعية تنشيط السياحة والاصطياف في لبنان Societé d'Encouragement au tourisme S.E.T واصدرت كتابا بالتعاون مع وزارة الاقتصاد الوطني". وكان المقصود من القرارات والتشريعات تشجيع قرى الاصطياف اي قرى جبل لبنان الصغير (المتصرفية). ففي سنة 1948 انشئت المفوضية العامة للسياحة والاصطياف. وفي 17/ 8/ 1954 صدر المرسوم 6012 الذي صنف "مراكز الاصطياف" وحدد الشروط الواجب توافرها في البلدة او القرية كي تعتبر مركز اصطياف. كما انشأ المرسوم 9449 الصادر في 7/ 6/ 1955 قسما خاصا متجولا من افراد الشرطة والحق بمفوضية السياحة والاصطياف للسهر على الراحة والسلامة العامة. وذلك قبل انشاء وزارة السياحة سنة 1966 وقبل المجلس الاعلى للسياحة.
ولتنشيط مراكز الاصطياف عمد المشترع منذ المرسوم 134 تاريخ 31/ 12/ 1941 الى تمديد عقود الايجارات السابقة له ولكنه استثنى من التمديد "الأماكن المصنفة مراكز اصطياف "مروراً بالمرسوم رقم 7/ 77 الذي استثنى "عقود الايجارات الموسمية" والقانون 22/ 83 الذي استثنى من التمديد "عقود الايجارات الموسمية لأماكن الاصطياف والاشتاء" وصولا الى القانون الاخير اي رقم 160/ 92 الذي استثنى في مادته السابعة من التمديد "عقود الايجارات الموسمية العائدة لأماكن الاصطياف والاشتاء". في حين مددت الايجارات في المدن الاخرى غير المصنفة كمراكز اصطياف ببدلاتها التي اصبحت مع الزمن تقل بكثير عما يدفعه الشاغل بدل فاتورة استهلاك الكهرباء...
وكان التباين في المجتمع قد ظهر أثناء جولة لجنة كينغ/ كراين وسؤالها السكان عن الدولة المطلوب انتدابها عليهم. وترسخ هذا التباين مع إعلان دولة لبنان الكبير وتجلى بإقدام المسيحيين على التعاون مع رجال الإنتداب الفرنسي مقابل إحجام المسلمين عنه. يروى ان أحد مسلمي بيروت سأل مسؤولا في السلطة المنتدبة لماذا تقربون المسيحيين في الادارة دون المسلمين!؟ فأجابه المسؤول الفرنسي: إذا رغبنا بزيارة أحد أعيان المسلمين وطرقنا باب بيته، اضطررنا الى الوقوف نصف ساعة قبل أن يفتح لنا، فعندما يعلم صاحب الدار من الطارق يهرع الى غرفة تسمى المنزول مخصصة للضيوف الغرباء، وكان عليه كي يفتح لنا بابها الخارجي (باب الزقاق الخاص بالغرباء) أن يحضر مفتاحاً كبيراً للقفل الأوسط للباب، وأن يرفع المدلاية (حديدة تصل بين طرفي صندوق الباب الداخلي)، ثم ينزل الساقوطة العليا من رتاج الباب وان يرفع الساقوطة السفلى فإذا دخلنا أخيراً أجلسنا في غرفة مسدلة الستائر لا يدخلها النور إلا ظلالاً وتفوح منها رائحة الرطوبة. وما هي إلا برهة حتى نسمع طرقاً على الباب الفاصل بين المنزول وبقية أقسام الدار، فينهض صاحب الدار ويتناول صينية القهوة من خلف الباب. وسريعاً ما تنتهي الزيارة ويقفل باب المنزول كما فتح. ويتابع المسؤول الفرنسي، بينما إذا زرنا أحد بيوت المسيحيين، استقبلنا صاحب الدار وعائلته ورحبوا بنا بلغتنا وقدموا لنا ما لذ من طعام وشراب. وخلص قائلا: وتسأل بعد ذلك لماذا نتعاون معهم؟
وإذا كان إعلان لبنان الكبير سنة 1920 عنى ضم أجزاء الى جبل لبنان (المتصرفية) فإن هذا الضم لم يزل التباين الذي كان قائماً قبل ذلك بين اللبنانيين ولا أزال التباين الذي تبعه، فقد كان الأمل أن يشكل لبنان الكبير لوحة متناسقة، ولكن على العكس تشكلت لوحة مشوشة قطعها مرتبكة ومتفرقة Puzzle.
فمنذ إنشاء معهد رومية سنة 1584 بدأت نهضة علمية لدى المسيحيين شجعتها الكنيسة المارونية بعد ذلك في مجمع اللويزة عام 1736 بإقامة المدارس والأديار في المدن والقرى لتعليم اللغات والعلوم العالية ومبادىء القانون. وجاء في كتيب الفجر الصادق الذي نشرته جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت إثر تأسيسها سنة 1878، أن المسلمين كانوا مقتصرين من المدارس على بعض زوايا مهجورة مملوءة بالعفونة والرطوبة ومن المعلمين على المشايخ العميان ومن الأطباء على أناس من الحلاقين والحجامين. في حين كانت الكلية الانجيلية السورية (الأميركية في ما بعد) قد بدأت بكلية الآداب ثم كلية الطب سنة 1866 وأنشأ اليسوعيون الجامعة اليسوعية سنة 1875 وانحصر التعليم في مناطق معينة وعلى طوائف محددة في بادىء الأمر، الى جانب المدارس الإيطالية والألمانية والانكليزية والاسرائيلية.
وفي الوقت الذي كان فيه المسيحيون يتعلمون ويثقفون ثقافة عليا ويسافرون للتخصص في فروع العلم ويطلعون على ما يحققه العلم في الغرب من اختراعات وما تنتجه مصانعه من منتجات، كان المسلمون يساقون دفاعاً عن الدولة العثمانية الى الحرب في القرم والبلقان وكريت واليمن وغيرها ومن يمت منهم يترك عيالاً معدمين لا حول لهم ولا طول.
ولم تتمكن دولة لبنان الكبير ولا دولة الاستقلال من تضييق هوة التباين، رغم الفرصة التي شكلها عهد الرئيس اللواء فؤاد شهاب الذي كان كالشهاب وضوؤه لم يصمد طويلاً. كان الدكتور عمر فروخ يقول لطلابه: "في الامتحانات الرسمية، إذا جاءكم سؤال في مادة اللغة العربية عن أشعر الثلاثة الفرزدق أو جرير أو الأخطل، فقولوا الأخطل (المسيحي) بالرغم من أنه ليس أشعرهم وألا سقطتم".
ولم تكن معرفة الموظفين المسلمين للفرنسية تساعدهم في عملهم في الادارة، فعندما طلب رئيس المحكمة الفرنسي من كاتبه جلب الـDossier (ملف الدعوى) أحضر له الكاتب المسند بدل الملف، والأخطر من ذلك عندما اضطر الكاتب أن يترجم لرئيس المحكمة الفرنسي مهنة أحد الشهود الذي كان قسّاً؟
وبادر المسيحيون الى السير بنظريات الاقتصاد الريعي، فبالاضافة الى الشركات المساهمة، أسسوا في بيروت سنة 1879 بورصة لتبادل السندات والأسهم من إثني عشر عضواً كلهم من المسيحيين. وفي 1921/11/28 حصر حاكم لبنان الكبير ترابو إجراء معاملات الصرافة بأحد المصارف والوسطاء المقيدة اسماؤهم وكانت غالبيتهم إن لم يكن كلهم من المسيحيين أمثال نخلة مسعد (سنة 1890) إسكندر صيفي (1897) سلمون ساسون (1900) الياس نابلسي (1901) نخلة تويني (1905) فؤاد بستاني (1905) بشارة سركيس (1910) جبران جرجس تويني (1899) نجيب شوشاني (1907).
كما أقبل المسيحيون على تأسيس المصارف، فبعد تأسيس فرع البنك العثماني في بيروت، ظهرت الكنتوارات الأهلية التي اتخذت اسم بنك. ففي سنة 1866 أعلن عن فتح بنك في بيروت باسم "بنك فؤاد الشرق" بإدارة انطوان سيور وخليل نقاش وموسى بطايني. وفي سنة 1878 أعلن إفتتاح محل لأشغال البانكا تحت اسم "الخواجات جبور طبيب وشركاه" (أفلس سنة 1911) وفي سنة 1883 أعلن سرسق أبناء عمّ تأسيس بنك في بيروت. وأسس فرعون وشيحا مصرفهم سنة 1902. وتعرضت بعض البنوك لضغوط المودعين كما حصل سنة 1905 مع بنك أرنست بك خياط. وأعلن سنة 1931 توقف بنك داغر وبطرس وشركاهما عن الدفع، كما أعلن سنة 1932 افلاس بنك كرياكوس وزهير. ويمكن مراجعة إحصاءات مصرف لبنان ليتبين ان الغالبية العظمى من مصارف لبنان تعود لمسيحيين، ومن الطبيعي أن تكون هذه المصارف قد أمنت على مدى سنوات طويلة التسليف لمشروعات انتاجية كبيرة وإعالة آلاف العائلات التي من الطبيعي أن تكون غالبيتها من المسيحيين ايضاً.
هذا بينما اتجه المسلمون، نتيجة لتحريم الربا (واعتبار الفائدة المصرفية نوعاً من الربا والبورصة شكلاً من أشكال اليانصيب) الى التجارة والعقارات والى إدخار أموالهم على شكل نقود أو حلي أو كانوا يسلمونها لكبير العائلة فيتاجر بها ويقبضون منه ما سمي "مرابحة" أموالهم؟
والاستاذ جهاد الزين مصيب في قوله ان المسلمين هم زبائن وأن المسيحيين منتجون، وقد برره الاستاذ عبد الرحمن الصلح بالنزعة التحررية "التي تتطلبها الصناعة السياحية كتناول الكحول وما شابه" مذكراً بإقدام المسيحيين على إنشاء الفنادق والمطاعم والملاهي والمسابح.
وهذه الظاهرة ليست جديدة، بل تعود الى ما بعد الفتح العربي لبلاد الشام والعراق، فمن يراجع كتاب "الديارات" (أي الأديرة) لأبي الحسن الشابشتي، يدرك ان الديارات في الشام والعراق كانت تضم دوراً للضيافة ينزلها زوار الدير والمجتازون به، من الخلفاء والامراء وأعيان الناس، وكان لا يخرج احدهم منها الا وهو يلهج بطيب الاقامة فيها والثناء على من بها. يذكر المعتز انه نزل بدير مرمار وقال فيه "كان من أنظف طعام وأطيبه وأحسن آنية" وكانت المنتزهات والبساتين والكروم تنتشر حول الأديار. وذكر ان لكل من طرق دير مر يحنا من الناس ضيافة قائمة على قدر المضاف لا يخلون بها وللدير مزارع وغلات كثيرة والعديد من البساتين والكروم. واجتاز المأمون بدير الأعلى (على دجلة) فأقام به أياماً ووافق نزوله عيد الشعانين فشهده واستحسنه.
ويحضرني ما رواه شاهد عيان من ان الحاج داود بن عبد الكريم بن حسن خطاب صاحب المقهى المشهور بـ"الحاج داود" في خليج الزيتونة (قبل أن يتأنكلز ويصبح زيتونة باي) وكان قد خصص قسماً من مقهاه للعائلات مفروز عن بقية المقهى بحاجز من القماش، وكان لا يقدم الكحول في مقهاه، وحدث أثناء مروره قرب احدى الطاولات العائلية ان شمّ رائحة العرق فعمد الى ضم شرشف الطاولة من زواياه الأربع في يديه على ما حوته الطاولة من مأكولات ومشروبات وصحون وغيرها وحمل الكل ورماه بالبحر وطرد الزبائن.
ونتساءل بعد كل ذلك عن التباين الذي لم تحاول دولة الاستقلال ازالته او تخفيفه فهل يلام مواطنو عكار والضنية والمنية والبقاع كالهرمل وعرسال وبعض الجنوب اذا لم يسارعوا الى حضور فرقة سمفونية عالمية مع ان اكثرهم لا يهمه معرفة الفرق بين بافاروتي وبنايوتي؟ وان بعضهم يظن أن أصل الفرنسية اديث بياف من عائلة الباف الطرابلسية. وأن بعضهم الآخر لا يطرب للمطربين ديلاما دل راي وآكون، ولا يتوقع ان تأتي فرقة "وان دايركشن" الى قريته؟ ذلك ان سعيهم لتأمين المسكن ولقمة عيش أسرهم وضمان الطبابة والمدرسة لأولادهم، لم يترك لهم فرصة التمتع برقصة فالس او فرقة باليه او سماع "زعيق" صوت أوبرالي؟ وبعد ذلك:
تعجبين من سقمي
صحتي هي العجب


محام ومؤرخ

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم