الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

فلسفة لا ثقافة

المصدر: "النهار"
بقلم الفيلسوف موسى وهبه
فلسفة لا ثقافة
فلسفة لا ثقافة
A+ A-

ننشر، في ما يأتي، نصًّا مهمًّا للفيلسوف موسى وهبه، كان قد أبصر النور في العدد الأوّل (٢٠٠٣) من مجلّة "فلسفة" التي كان يرأس تحريرها، يميِّز فيه، بشكلٍ قاطع، بين الفلسفة والثقافة، قائلًا: "إن كنت تطلب الفلسفة لمنفعة مرجوّة فحقيقٌ بك أن تعلم أن لا جدوى برّانيّة من الفلسفة قط". فالفيلسوف ينهمّ بالأسئلة التي يطرحها العقل بطبيعته، وذلك إغناءً للقول الفلسفي العالمي وليس تأمينًا لخدمة مجتمعه أو وطنه، أي من أجل راحة العقل، واذا شئنا من أجل البشريّة جمعاء. فهمّ النهوض بالمجتمع وبالوطن يعود الى المثقف لا الى الفيلسوف. (تقديم الدكتور جمال نعيم) 

"فلسفة" إذًأ من دون أيّ إضافة أخرى. استذكار بالعربية اليوم، لقولة للفارابي على الأقل: الفلسفة ليست تنظر في شيء غير المقولات أولًا، لا التعاليم ولا العلم الطبيعي ولا العلم المدني. اختراع للأفاهيم على ما سيقول جيل دولوز.

"فلسفة" إذًأ من دون إيّ إضافة أخرى في مواجهة سيل المسهّلات الثقافية التي تبتذل القول الفلسفي بذرائع شتّى.

و"فلسفة" من دون أيّ إضافة أخرى في مواجهة بديهيات تحاول فرض نفسها على شكل موضوعات للتوسيع من نوع: "الواقع العربي المتردّي ودور الفلسفة المنشود"، "حاجتنا إلى فلسفة خاصة بنا تعيد إلينا..." لا أدري ماذا، "النهضة البائرة والقصور الفلسفيّ"، بديهيات ألخِّصها بواحدة: الشأن العام (res publica) والفلسفة؛ ونثرًا: "المسألة الوطنية والحضور الفلسفيّ في لبنان" كما اقترح عليّ ذات مرّة فرحان صالح صاحب "الحداثة" فقلت شيئا من هذا القبيل: يقترح عليّ صاحبي عنوانًا للكلام. يحمّلني عبئًا وأيّ عبء. العنوان واضح المعاني بسيط التركيب. لكن ما إن تمعن التفكير في هذا العطف: المسألة الوطنية (و) الحضور الفلسفي في لبنان، حتى تتعقّد الأمور وتُبْهِم: فمن المرجّح أنّ العطف الواصل هنا بين كائنين أو حالين لا يقوم بدفع من خارج مثلما كان ليقوم في مثل قولك: شاهدتُ فيلمًا وشربتُ القهوة، حيث يقع الوصل في المتكلّم الفاعل لا في الأفعال نفسها: لا علاقة لـ شاهدتُ بشربتُ إلا عبر تاء المتكلّم بحيث كان يمكن أيضا أن تقول: شاهدتُ فيلمًا وغفوتُ، أو شاهدتُ وقرأتُ الصحيفة، أو أيّ شيء يحلو لك أن تضيف من دون مناقضة.

العنوان والعطف فيه قد يعني (على الأرجح) ربطًا ذاتيًا بين مبتدأ وخبر، نوعًا من مثل: المسألة الوطنية وكتابة التاريخ، بعدّ كتابة التاريخ عنصرًا تكوينيًّا في المسألة الوطنية. أو المسألة الوطنية وانخفاض سعر البطاطا، بعدّ تبادل البطاطا ظرفًا من ظروف المسألة.

على المنوال نفسه قد يعني عطفُ الحضور الفلسفي على المسألة الوطنية، التساؤلَ عن دور الحضور هذا في حلّ المسألة هذه، المسألة الكبرى الشاغلة الوطنَ والتمارين المتفرغة عنها. فيعني حلّ المسألة إيجاد الجواب الصحيح عن السؤال المطروح بحيث لا يعود ثمة مسألة بها حاجة إلى حلّ: تستوي بعدئذ الأمور وتعود بنا إلى نثر الحياة اليومية.

لكن السؤال يبقى عالقًا: في هذه الثلاث لا يخرج العطف من المسألة الوطنية من تلقائه، أو كما يخرج الماء من الصخر، بل لا بدّ له من مُخرج. لا بدّ من قابلة تستولد المسألة الوطنية بعد إذ تُحبِّلها أصنافًا من المسائل، بل قل بعد أن تولد هي نفسها بوصفها مسألة وطنية.

هذه القابلة المولدة والشاغلةُ التفكير حتّى الآن ليست سوى السياسيّ، لا بما هو ممارسة سياسية للسياسة، بل من حيثُ هو منتج للأقاويل والمعارف، من حيثُ هو متفكر في نفسه إياه، من حيثُ هو ثقافيّ.

حين أقول "ثقافيّ" أكون قد انتبهت في الوقت عينه إلى ما آل إليه التفكير المسمّى فلسفيًّا اليوم (هنا والآن): بعد أنّ صارت الحاجة إلى الفلسفة تلبَّى بما يشبه الفلسفة، بما حلّ محلّ التفلسف وشغل حيّزه الأصلي وصار يُملي على الناس (على المفكّرين منهم) ماذا عليهم أنّ يقولوا: صار يعيّن لهم مهامَّهم وانشغالهم، يعيّن لهم طرق التفكير وثيماته. الحصيلة: المثقفون يتجنّدون في خدمة السياسيّ. وإذ ينقطعون إلى الخدمة المحضة (الخدمة للخدمة) يُدعَون مفكّرين وفلاسفة.

لكن ما إن نكشف، ما إن تنكشف علينا، إن شئت، هذه الألعوبة حتّى ينعطف التفكير وجهة أخرى. وجهة ربما بدت (ربما كانت بدايًة) مجرد تلاعب بالألفاظ. كأن نفكّر بالقول: المسألة الوطنية والغياب الفلسفيّ في لبنان. أو- بعد الانتباه إلى هذه الجلبة الفلسفيّة كلّها – المسألة الوطنية والحضور الفلسفيّ الغائب هنا والآن. وبدرْهم [كذا] من الجدل: الحضور الفلسفيّ – اللا- يحضر هنا والآن. لكن هذا الرقص على الحبال (نيتشه) ليس سوى الخطوة الأولى في رحلة زرادشت. مجرد "حنْجَلة" قبل الرقص الفعليّ.

الرقص الفعليّ لا يبدأ حين نقلب فنقول: الحضور الفلسفيّ هو هو المسألة الوطنية، حين نستبدل العطف بالربط المنطقي الهوّي: ما زال الحضور الفلسفيّ هنا مجرّد خبر مقدّم. ما زالت المسألة الوطنية هي المبتدأ (المعنوي على الأقل). وقولنا الانقلابي لا يعني في أحسن الأحوال، سوى أنّ الحضور الفلسفي (هو) جوهر المسألة الوطنية: ما زال التفكير الفلسفيّ المزعوم يعمل في خدمة المسألة الوطنية، المسألة التي تكون متعيّنة (سبق أن تعيّنت) في نصاب آخر غير النصاب الفلسفيّ، وتعينت كمسألة ثقافية. تغيّر شكل تقديم المسألة إذًأ، لكن المسألة نفسها لم تتغير: إذًا يحتفظ الانقلاب أبدًا بالحشوة نفسها.

لكن مع ذلك حصل تقدّم: بلغ الثقافيّ شأوه، ذروته، إعترف بمركزية الفلسفيّ: صار الحوار ممكنّا، لكن الفلسفيّ لم يبدأ بعد. وحين يبدأ الفلسفي قد نسمع كلامًا من مثل أمّا المسألة الو... كمسألة فلسفية فكذا وكذا. والأمّا هنا تفيد استئناف القول البادئ من قبلُ في مسائل أخرى واستطرادًا في المس... الوطنية.

فالفلسفيّ، كي نستعير توزيع العم هايدغر، لا "ينهمك" بمسائلَ ومشاغلَ يُمليها نثر الحياة اليومية الثقافيّ. الفلسفيّ "ينهمّ" (يشيل همّ) "الكون" والإنسان وحياته في الهنا والآن. ما يندرج في هذا الانهمام يرقى إلى الفلسفيّ.

بهذا المعنى قد تشكلّ المسألة الوطنية انهمامًا فعليًا إنْ طُرِحَت على هذا النحو: كيف لإمكان القول الفلسفيّ اليوم أنْ يكون هو هو المسألة الوطنية؟ هذا السؤال الفلسفيّ الفرعي يمكنه أيضًا أن يُصاغ كسؤال ثقافيّ أساسيّ: ما العمل كي يكون لبنان وطنًا للفلسفة؟ كي تكون "بيروت عاصمة دائمة للفلسفة"؟

ذاك هو مجال الحوار المفتوح في الثقافيّ لملاقاة الفلسفيّ الممكن. وذاك أيضًا انفتاح للفلسفيّ قد صار ممكنًا منذ قليل. منذ تم صوغ السؤال: كيف يمكن للقول الفلسفيّ بالعربية اليوم أن يكون؟ منذ أن تم استيضاح السؤال نفسه بالقول: إنّ التفلسف هنا والآن سيكون بالعربية أو لن يكون. ليس لأنّ العربية "لغة أهل الجنة" وحسب ولا لأنّها "دليل على صحة التثليث" وحسب، بل لأنّ الفلسفة بنت مدن، ومدن مفتوحة على العلن. لأنّ الفلسفة ليست علمًا سريًّا بل علمان طامح إلى اليونيفيرسيل.

استيضاح السؤال في اتجاه أنّ التفلسف بالعربية، هنا والآن، لن يكون ممكنًا من دون نقل التراث الفلسفيّ بأمهاته كلّها إلى العربية في مناخ لغوي متّسق، وليس في ما يتلى علينا في الكراريس الثقافيّة من الحاجة إلى فلسفة خاصة بنا، أو من حق لنا في الاختلاف الفلسفيّ، أو من اشتقاق للفلسفيّ وتمييز له من رُغام الممارسة السياسية:

لأنّ التفلسف لا يمكن بدؤه إلا استئنافًا: لا يمكن اختراع الفلسفة في كلّ مرة من جديد. إلا أنّ التفلسف ليس تقليدّا لما هو قائم فلسفيًّا، بل إنّه بالضبط خروج على هذا القائم إنّما خروج فيه. ففي غياب جسد الفلسفة نفسه وغياب نصوصها الأمهات يزمّ القول بالضرورة إلى قول ثقافيّ.

لا أقول "ثقافيّ" على سبيل المذمّة. فالثقافيّ نِصاب أساسي من أنصبة المدينة بما هي مشروعة فلسفيّا، بوصفها مدينةً للصداقة والخفّة؛ ونصابٌ يجعل الحوارَ بما هو حيّز لاستعراض الفلسفيّ، ممكنًا.

أقول "ثقافيّ" إذًا لوجوب التمييز من الفلسفيّ. لجعل الفلسفيّ أكثر إلحاحًا، لجعل غيابه، افتقاده، الحاجة إليه أكثرَ وطأةً، أكثر إشعارًا بالضيق الذي يمسك بخناق التفكير بالعربية الآن، فلا يمكنه إلا من السكت أو من الصراخ صراخًا من عيار الآتي:

إنّ وطنًا، إنّ أوطأنًّا، إنّ أمًّة لا تنهض للانهمام بالفلسفة، إنّ أمة لا تستطيع ان تحضن الفلسفة لهي إذًا مجرّد جثة وإن مترامية الأطراف. جثة قد تحفظها من التعفن والتحلّل بالتقنيات الحديثة والقديمة، بالتحنيط مثلًا، لكنها ستظل جثة لا جديد فيها. ستظل مرتعًا للموت والتّكرار ما دامت بلا قلب ينبض، ما دامت الفلسفة لا تحتل فيها المكان الذي يجب أن إليها يعود.

أرجو إذًا أن لا أكون خيّبتُ كثيرًا توقّعكم. توقّع الثقافيّ فيكم الذي كأنْ يريد سماع صوت الفلسفة في علاج ما يحلّ بالوطن والأمة هنا والآن. إلى توقع الثقافّي هذا وددت لو أقول: إن كنت تطلب الفلسفة لمنفعة مرجوّة فحقيقٌ بك أن تعلم أنْ لا جدوى برّانيّة من الفلسفة قطّ، أنّ الفلسفة هي هذه اللاجدوى أو هذا التحمّل للاجدوى المطلقة، أنّ الفلسفة تسألك بالأحرى عن جدوى ما أنْت به منهمك. وتقترح عليك أنّ تكف عن الخدمة عند أسياد آخرين، أنْ تقوم على خدمة نفسك بنفسك فلا تعود تنهمّ بمهمات تخرج عن السياق. فأيّ طاقة لديك على التحمّل يا ترى!؟


الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم