الجمعة - 10 أيار 2024

إعلان

عربٌ ولكن!

المصدر: "النهار"
الشدياق يوسف "رامي" فاضل
عربٌ ولكن!
عربٌ ولكن!
A+ A-

يَعتَبر الأب الراحل جان كوربون في كتابِه "كنيسة المشرق العربيّ" أنّ هويّة الكنيسة مرتبطة بالمكان التي تتواجد فيهِ إرتباطًا وثيقًا. بالتالي فإن نطاق وجود كلّ كنيسة هو المدى الحيويّ لرسالتها وشهادتها، هذه الرسالة التي تعطيها شرعيّة الوجود وتؤكّد على هوّيتها الكنسيّة. فالبُعد الرسوليّ والإرساليّ ليس خيارًا يمكن التغاضي عنه إنما هو من المعايير الضروريّة التي على أساسها تُعتَبَر الكنيسة كنيسة!


وفي لبنان يجد المسيحيون أنفسهم في حيرةٍ قاتلة حول هويّتهم وهويّة بلدهم، ذلك أنَّ النظام اللبنانيّ والنظرة إلى الهويّة يتطوَّران بطريقة "أزماتيّة" على ما يقول الأب صلاح أبو جودة اليسوعيّ، فبعد كلّ أزمة أو صدمة كبيرة في لبنان يتفاعل النظام ويُطوِّر نفسه، كما أنّ الهوية الوطنيّة تتبلور أكثر فأكثر. فبعد صدمة الإستقلال اللبنانيّ عام 1943 إعتبر اللبنانيون أنَّ بلدهم "ذو وجه عربيّ"، في حين أنهم بعد أزمة الحرب اللبنانيّة وفي مؤتمر الطائف إعتبروا أنَّ لبنان "عربيّ الهويّة والإنتماء". هذه العروبة التي يقبلها المسلمون برحابة صدر يختلف صداها في الأوساط المسيحيّة، هذا ما شهدناه على وسائل التواصل الإجتماعيّ في الأيام الأخيرة، وهذا ما رأينا حدّته تتفاقم في السنين الأخيرة، إذ شهدنا نشأة أحزاب وتيّارات قوميّة تنادي بهويّات مختلفة كالهويّة المشرقيّة والروميّة والأراميّة وغيرها، في حين ينزح البعض إلى قوميّة لبنانيّة يربطها بالفينيقيّة هذا دون أن ننسى من ينادي بتحرير الهويّة اللبنانيّة من العروبة ومن كلّ أشكال الإنتماءات الأخرى.


أمّا إذا أردنا أن ننظر بموضوعيّة إلى الشعب اللبنانيّ فسنرى أنَّ هذا الشعب يحتوي كلّ هذه القوميات والثقافات التي ورد ذكرها سابقًا كما ويحتوي الكثير غيرها أيضًا، ما يجعل السعي إلى هويّة واحدة من لونٍ قوميّ أو دينيّ أو ثقافيّ واحد ضربًا من ضروب الخيال وحلمًا من أحلام المراهقين. وهذا لا يعني أيضًا أنَّ هويّة لبنان تتجزأ أو تتوزع أنصافًا أو أثلاثًا، فلا يمكننا القول أنَّ نصف هويّة لبنان فينيقيّة والنصف الأخر مشرقيّ، كما أنَّ لبنان لا يملك هويّات عديدة بل إنَّ هويّته واحدة تتكوَّن من كلّ العناصر التي كوَّنَتها على ما يقول أمين المعلوف في كتابه "الهويّات القاتلة". وكما أنّ هويّة لبنان تتكوّن من كلّ القوميّات والثقافات الموجودة على أرضه، فالهويّة العربيّة تتكوَّن من كلّ الهويّات الوطنيّة الممتدّة من المحيط إلى الخليج. ولكلّ هويّة دورها الوظيفيّ ولها خصوصيّتها في هذا الجسم العربيّ الكبير، فعروبة المغرب ليست كعروبة لبنان، وعروبة لبنان تختلف عن عروبة الدول الخليجيّة التي تختلف عروبتها عن عروبة مصر. ولكلّ من هذه الدول دور وظيفيّ في الجسم العربيّ الكبير، ويمكننا أن نشارك المطران الراحل أنطوان حميد موراني القول بأن للبنان الوظيفة النقديّة والعروبة النقديّة لما فيه من حريّة فكريّة ومن تعدديّة ثقافيّة. و"العروبة النقديّة" التي نرتضيها للبنان تستمد زخمها من التعدديّة اللبنانيّة ومن مسيحيّيه بنوعٍ خاص، هذا ما شهدناه أيّام النهضة العربيّة وعند تأسيس جامعة الأمم العربيّة وفي الطريق الطويل للقضية الفلسطينيّة وفي كلّ قضايا العالم العربيّ.


غير أنّ الواقع اليوم يختلف عمّا كان عليه سابقًا، ذلك أنَّ ما يشعر به المسيحيون من تهديدٍ لوجودهم ودورهم يجعل البعض منهم يذهب نحو العودة إلى الحيِّز الضيِّق من هويّتهم وعلى سبيل المثال فإنَّ بعض الموارنة يعتبرون أنفسهم أراميون لمجرّد أنَّ الكنيسة المارونيّة هي "أنطاكيّة سريانيّة" إلّا أنَّ هذه الهويّة التي تتمسك بها الكنيسة المارونيّة هي هويّة روحيّة بشكلٍ خاص أكثر مما هي هويّة عرقيّة أو قوميّة أو حتّى مكانيّة، فأنطاكيا اليوم لا وجود فيها لمارونيّ واحد بخلاف الدول العربيّة التي يسكن فيها القسم الأكبر من الموارنة. وطالما أننا نتكلَّم عن الموارنة فالتاريخ يوضح لنا أن كنيستهم عرفت الإزدهار لأسبابٍ عديدة من أهمها الإنفتاح على المجال العربيّ والقضايا العربيّة. وخير مثال على ذلك هو انفتاحهم وتحالفهم مع الأمير فخر الدين المعني الثاني في القرن السابع عشر ما جعل حدودهم تصل إلى جبل الشوف وتتعدّاها إلى الجنوب وإلى الأراضي المقدّسة، يومها تبنّى الموارنة قضايا المنطقة العربيّة بالإستقلال عن السلطنة العثمانيّة وانفتحوا على إخوتهم الدروز ما جعل رسالة الكنيسة تثمر ثمارًا عديدة. يتكرّر المشهد مع النهضة العربية حيث أنقذ المسيحيون اللغة العربيّة من التتريك وحملوا لواء العروبة عاليًا نذكر منهم : إبراهيم اليازجي، ناصيف اليازجي، بطرس البستاني، دون أن ننسى المطران جرمانوس فرحات وجبران خليل جبران وأمين الريحاني والعديد غيرهم بالإضافة إلى دور المدارس والجامعات المسيحيّة، ويعتبر الأباتي بولس نعمان أنَّ هذه النهضة رسَّخت "المسيحيين العرب كأحد أعمدة المنطقة وليس كأقلّية على هامشها". يستمرُّ هذا الدور وتكثر ثماره في الحربين العالميتين وما بعدهما خاصةً مع القضيّة الفلسطينيّة وفي فترة الخمسينيات والستينيات حيث نمت الأحزاب العربيّة التي كان معظم روادها من المسيحيين العرب. أمّا في الحرب اللبنانيّة فقد انسحب المسيحيون من دورهم العربيّ لإنشغالهم بهمِّهم الوجوديّ وبالتحديّات المصيريّة التي واجهوها في تلك المرحلة. إنتهت الحرب اللبنانيّة بمؤتمر الطائف الذي فيه تحددت هويّة لبنان على أنّه "عربيّ الهويّة والإنتماء" إلا أنَّ مرحلة ما بعد الحرب لم تشهد تنقية للذاكرة على صعيد الهويّة ولم تشهد أي رؤيا واضحة لمسألة الهويّة والدور الكبير في المنطقة العربيّة التي نعيش فيها. هذا ما جعل معضلة الهويّة تتفجَّرُ بعنف عند المسيحيين كُلّما سمعنا تصريحًا من هنا أو من هناك حول هويّة لبنان أو حول هويّة سكانه ومسيحييه. أمّا إذا أردنا أن ننظر إلى مسألة الهويّة نظرة مسيحيّة صرفة فسنجد أنّ المعيار العرقي لا أهميّة له خاصَّةً في بلد كلبنان شهد ما شهده من تمازج الشعوب والحضارات. والمعيار الثقافي أيضًا يفشل في إعطاء أي مجموعة هويّة خاصّة لأن الثقافات كالأعراق تمازجت في بوتقة لبنانيّة واحدة. أمّا معيار اللّغة فيعطينا ملامح الهويّة العربيّة دون أن يؤكدها. وإذا إعتمدنا المعيار "الإكليزيولوجي" أي الكنسي سنجد أن الكنيسة هي في خدمة الشعوب التي تقوم بينهم بغض النظر عن دينهم أو عرقهم، وسنجد أنّ الكنيسة هي "مَكانيّة" أيّ تنتمي إلى المكان التي تحيا فيه، والأهمّ أنها تنتمي إلى القضايا المحقّة لشعوبها، بالتالي فلا غرابة إذا اعتبرنا أنَّ كنائسنا هي عربيّة وفي خدمة الشعوب العربيّة وقضاياهم المحقّة. ذلك من خلال "العروبة النقديّة" التي نرى أنّ دورنا يتجلّى فيها. يبقى أنّ الهويّة الشخصيّة هي شأن خاص لكل إنسان وهي مفتوحة على التعدُّد وتموت إذا إنغلقت على ذاتها، وكما يقول الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش "إن الهويّة بنت الولادة لكنها في نهاية الأمر إبداع صاحبها لا وراثة الماضي".
عربٌ نحن! لكن هويّتنا مفتوحة على التعدّد... عربٌ نحن! لكن النقد من صلب هويتنا... عربٌ نحن! لكنّ وطننا السماء... عربٌ نحن ولكن لسنا "عرباً فقط" بل نحن "عرب ولكن"!


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم