الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

كوكب الأرض: هل يقترب فعلاً من عصر جليدي مصغّر؟

المصدر: "النهار"
ألسنة اللهب تحيط ببحيرة شاستا المنكوبة بالجفاف خلال "حريق الملح" في ليكهيد، كاليفورنيا (أ ف ب- 2 تموز 2021).
ألسنة اللهب تحيط ببحيرة شاستا المنكوبة بالجفاف خلال "حريق الملح" في ليكهيد، كاليفورنيا (أ ف ب- 2 تموز 2021).
A+ A-

الدكتور جورج كرم
اختصاصي في علم المناخ

 

أغلب الحديث الذي كان يدور في الأوساط العلمية، خلال السنوات الكثيرة الماضية، تمحور حول مشكلة الاحتباس الحراري، وما لها من تداعيات مستقبليّة خطرة، بدءًا من ذوبان جليد القطبين نتيجة ارتفاع درجات الحرارة، مرورًا بارتفاع مستوى سطح البحار وغرق بعض المدن الساحليّة، وصولًا إلى تغيّر المناخ العالمي... أمّا اليوم فقد تغيّرت بوصلة الحديث، فبدأنا نسمع مؤخرًا عن تبريد عالمي نتيجة اقتراب حدوث عصر جليدي مصغّر، مشابهًا للعصور الجليديّة التي حدثت في فترات زمنية سابقة. فهل الأرض مقبلة حقًّا على حقبة باردة جديدة؟ وهل هناك بالفعل ظواهر مناخية وأدلّة علميّة تدعم هذا التخمين؟

 

قبل قرون قليلة، مرّت الأرض بحقبات باردة وعصور جليديّة مصغرّة أبرزها ما يُعرف باسم Dalton Minimum الّذي حدث خلال الفترة من 1790 إلى 1830، والعصر الجليدي السابق له المعروف باسم Maunder Minimum الّذي حدث خلال الفترة من 1645 إلى 1715. خلال هذه الفترات، انخفض النشاط الشمسي بشكل ملحوظ فتراجع عدد البقع الشمسيّة، وانخفضت حرارة الكرة الأرضية عن معدلاتها الطبيعيّة.

 

وعلى ما يبدو، وكما تشير آخر القراءات لوكالة الفضاء الأميركية "ناسا"، أنّ الدورة الشمسيّة الأخيرة (رقم 24) التي استمرّت من عام 2008 حتى عام 2019، انخفض النشاط الشمسي في سنواتها الأخيرة بشكل ملحوظ. كما توقعت الوكالة أن تكون الدورة الشمسيّة الحاليّة (رقم 25) دورة ضعيفة أيضًا ما سيتسبب بانخفاض درجة حرارة الكوكب. وقد بيّن دوغ بيسكر، عالم الفيزياء الشمسية في مركز التنبؤ بالطقس الفضائي في كولورادو، التابع للإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي (NOAA) في الولايات المتحدة الأميركية، أنّ هذه الدورة ستصل الى ذروة عدد البقع الشمسية عند حدّ 115 بقعة في تموز من عام 2025، مع العلم بأنّ الدورة الشمسية النشطة تكون ذروة عدد البقع الشمسية فيها فوق 200 بقعة.

 

لم تقتصر القراءات العلمية في ما يتعلّق بانخفاض عدد البقع الشمسيّة مستقبلًا وما لها من أثر على انخفاض درجات الحرارة على الأميركيّين فقط. فالجمعية الفلكيّة البريطانية توقعّت أن ينخفض النشاط الشمسي بنسبة 60 % ما بين عامي 2030-2040، كما أكّد عالم الفيزياء الفلكيّة في جامعة باريس- ديدرو إيتيان باريزو، أنّ النتائج الأولى لدراسة احتمالات اتّجاه الأرض إلى عصر جليدي مصغّر أتت إيجابيّة. كما أوضح كلٌّ من البروفسور الروسية فالنتينا زاركونا و اليكسي أوسكين، أحد أبرز الباحثين في جامعة موسكو، أنّ حرارة الأرض ستنخفض نتيجة تغيّر النشاط الشمسي في السنوات الأخيرة ما سيؤدي إلى بداية عصر جليدي شبيه بعصر Maunder Minimum.

 

وبناءً على ما سبق، بدأت ملامح انعكاس الخفوت الشمسي تظهر مؤخرًا وبشكل واضح على حرارة الكوكب وبخاصة خلال الموسم المطري 2020 – 2021. تبريد واسع النطاق في درجات الحرارة قد حدث في وسط وشرقي المحيط الهادئ الإستوائي، نتيجة ظهور ظاهرة اللانينا في فصل الخريف واستمرارها حتى شتاء 2021. كما أسفرت موجات البرد الشديدة التي تعرّضت لها مساحات شاسعة في النصف الشمالي من الأرض خلال شهر كانون الأول 2020 ، إلى تسجيل أرقام قياسية غير مسبوقة لناحية درجات الحرارة وسماكة الثلوج المتساقطة، كما حصل في روسيا، كوريا الجنوبية، اليابان، سيبيريا، كازاخستان، باكستان، أجزاء من الصين، أيسلندا، جبال الألب الإيطالية، كندا بالإضافة إلى ولايتي بنسلفانيا وألاسكا الأميركيتين...

 

لم تقتصر الموجات الباردة على شهر كانون الأول. فقد إجتاحت كتلة هوائية باردة جدًا، وفي عزّ الربيع (20 نيسان 2021)، وسط وشرقي الولايات المتحدة. فتساقطت الثلوج على إثرها وسجّلت درجات الحرارة أرقامًا قياسية لمثل هذا الوقت من العام، كما في مدينة أوكلاهوما سيتي حيث تدنّت درجة الحرارة صباح 21 نيسان لتصل إلى 1,1 درجة مئوية تحت الصفر متجاوزة الرقم القياسي السابق البالغ 1,1 درجة مئوية سنة 1966. كما اعتُبِر شهر نيسان من عام 2021، الشهر الأبرد منذ عدّة سنوات في عدد من الدول الأوروبية. فكان الشهر الأبرد في هولندا منذ ثلاثين عامًا، وفي النمسا منذ العام 1997، وفي انجلترا منذ العام 1922... وكان ملفتًا للنظر ما حدث في غرينلاند في 25 أيار الماضي، حيث اكتست هذه الجزيرة، وبحسب البيانات التي قدّمها المعهد الدنماركي للأرصاد الجوية (DMI)، بكميات كبيرة من الثلوج وبمستوى لم يسبق له مثيل. وقد حدث ذلك بعدما تراجعت رقعة الجليد في القطب الشمالي عام 2020 وفق ما أظهرت صور عبر الأقمار الصناعية كان قد أعلن عنها المركز الوطني لبيانات الجليد والثلوج في الولايات المتحدة الأميركية (NSIDC). وفي السياق نفسه، ضربت عاصفة بردية شديدة، وفي عزّ الصيف (صباح 29 حزيران)، لفترة قصيرة إنمّا بقوة غير مسبوقة، عدّة بلديات في إقليم فوج الفرنسي، حيث وصلت تراكمات حبّات البرَد إلى حوالي 80 سنتمتراً في بعض الأماكن.

 

كما النصف الشمالي للأرض، يتعرّض النصف الجنوبي منها، الّذي يتأثر بفصل الشتاء الآن، لِموجات برد تاريخيّة. فالقارة القطبية الجنوبية "أنتارتيكا" كانت باردة بشكل كبير خلال عام 2021، حيث سجّلت حرارة قياسية في 10 حزيران، بلغت 81,7 درجة مئوية تحت الصفر حيث تمّ تسجيلها في محطة الأبحاث دوم فوجي التي تديرها اليابان. ونتيجة لذلك، وبحسب (NSIDC)، نما الغطاء الجليدي في القارة بشكل ملحوظ وتوسّع خلال الفترة الممتدة من أواخر شهر شباط حتى شهر حزيران، ليرتفع بذلك عن متوسط الفترة الممتدة من عام 1975 حتى 1990.

 

هذا البرد الاستثنائي، ما لبث أن انتقل من أنتارتيكا إلى عدد من دول نصف الكرة الجنوبي. فاجتاحت الموجات الباردة كلًّا من أستراليا، الأرجنتين، بوليفيا، باراغواي والأوروغواي. كما تساقطت الثلوج بكثافة في نهاية شهر حزيران، في ولاية سانتا كاتارينا الواقعة جنوبي البرازيل، لثلاثة أيّام على التوالي. ووفقًا لمركز معلومات الموارد البيئية والأرصاد الجوية المائية في الولاية (Epagri / Ciram)، تُعتبر هذه السنة الأولى منذ عام 2000 التي يتمّ فيها تسجيل هذا الحدث.

 

مقابل كلّ هذا التبرّد، الذي اجتاح الكثير من دول قارات العالم خلال هذا العام، بقيت البلاد العربيّة التي يعتبر معظمها مصدرًا للموجات الحارة، على هامش الكتل الباردة ولم تتأثّر بحدّتها بشكل كبير. فلبنان تعرّض خلال هذا الموسم المطري (2020 – 2021) لعدد من الموجات الباردة، أكثرها حدّة تلك التي حصلت في 17 شباط، حيث غطّت الموجة القطبية المرافقة لها، بالإضافة إلى لبنان، كلًّا من العراق، سوريا، فلسطين، الأردن، والأجزاء الشمالية من مصر والسعودية. لكن وفي المقابل، سيطرت عليه، وفي عزّ الشتاء، أجواء ربيعية دافئة وجافة، توزّعت ولفترات طويلة، على أشهر كانون الأول والثاني وشباط، حيث غاب الغطاء الثلجي وبخاصة في الكانونين، بشكل شبه تام عن مرتفعات سلسلتي جبال لبنان الغربية والشرقية. ناهيك عن المنخفض الجوي الخماسيني المبكر الّذي ضرب البلاد في بداية الأسبوع الثاني من شهر آذار.

 

حتى كندا والولايات المتحدة الأميركية اللتان تعرضتا لموجات برد قياسية خلال فصل الشتاء، اجتاحتهما موجة حرّ تاريخية وقياسية في الأيام الأخيرة من شهر حزيران الفائت. هذه الموجة لم تشهد مثلها المنطقة منذ بدء التسجيلات المناخيّة، حيث سجّلت الحرارة على إثرها في ليتون- مقاطعة بريتش كولومبيا، 49,6 درجة مئوية، نتج عنها العديد من الحرائق والوفيّات. كما امتدّت الموجة الحارة لتطول شمالي غربي الولايات المتحدة، مسجّلة أيضًا حرارة قياسيّة بلغت وبحسب مصلحة الأرصاد الجوية الأميركية، 46,1 درجة مئوية في مطار بورتلاند في ولاية أريغون. ويعود سبب هذه الموجة إلى ظاهرة القبّة الحرارية (سيطرة منطقة ضغط جوي مرتفع لفترة فوق منطقة معينة مما يؤدي إلى انحباس الهواء الدافئ فترتفع درجات الحرارة فيها شيئًا فشيئًا لتصبح الأجواء حارة وبشكل كبير) وهي بحسب ما أعلن خبراء الأرصاد الجوية في صحيفة واشنطن بوست، نادرة الحدوث إحصائيًا ولا يمكن توقعها إلا مرّة كلَّ عدّة آلاف سنة. وبحسب ما قال جون كلايغ، الأستاذ الفخري لعلوم الأرض في جامعة سايمن فريزر في كندا، " هذه القبّة تحمل بصمة التغيّر المناخي في كلّ نواحيه".

 

وبالتزامن مع ظاهرة القبّة الحرارية، التي سيطرت على كلّ من كندا والولايات المتحدة، شهدت سيبيريا درجات حرارة قياسية وصلت إلى حدود 48 درجة مئوية كما سجّلت موسكو في 23 حزيران أعلى درجة حرارة على الإطلاق وقد بلغت 34,8 درجة مئوية.

 

كما يبدو مما سبق، العالم بأسره يعاني "جنون الطقس" ويشهد تطرّفًا مناخيًّا مرعبًا... وكأنّ الفوضى المناخية قد أحكمت سيطرتها على الكوكب!! ففي الوقت نفسه، احتباس حراري وتبرّد عالمي... كيف ذلك؟!

 

أوّل ما يجب توضيحه هنا، هو أنّ التغيّر المناخي الناتج عن ظاهرة الاحتباس الحراري لا يعني غياب الطقس البارد ونهاية الموجات الباردة. فالطقس والمناخ شيئان مختلفان، فيوم ماطر في إحدى الصحارى لا يلغي في الحقيقة أنّ مناخها حار وجاف. وعلى هذا الأساس يمكننا أن نشهد طقسًا باردًا في جزء من العالم مع استمرار الاحترار العالمي. وبغض النظر عن بعض المشكّكين، فظاهرة التغيّر المناخي أصبحت حقيقة ثابتة وواقعًا ملموسًا. فالكثير من الدراسات المناخية المحليّة والإقليميّة والعالميّة التي أُجريت ولا تزال، سواء في البر أم في البحر، قد أشارت جميعها إلى إتّجاه تصاعدي في درجات حرارة الكوكب.

 

يضاف اليوم إلى حقيقة الأمس واقعٌ جديدٌ يتمثّل ببداية تبريد عالمي، ظهرت ملامحه جلّيّة في أجزاء من العالم (وبخاصة في العروض الوسطى)، بين نهاية الدورة الشمسية رقم 24 وبداية الدورة رقم 25. هذا الواقع المثبت بالبيانات والأرقام المناخية دفع ببعض العلماء إلى تبني فرضية بداية حقبة باردة جديدة. هذا التخمين يرتكز على ما يحدث اليوم من تزامن بين موجات البرد وتراجع النشاط الشمسي الذي كان قد حدث في الماضي ونتجت عنه عصورٌ جليدية مصغّرة (Dalton Minimum و Minimum Maunder)، مع فارق وحيد هو أنّ وقتها لم يكن هناك غازات حابسة للحرارة ناتجة عن الأنشطة البشرية.

 

ولإثبات فرضية العصر الجليدي يحتاج علماء الفلك والطقس والمناخ إلى مزيد من المراقبة العلميّة والبيانات المناخيّة، كما يحتاج كلاهما إلى المزيد والمزيد من السنوات... ففي حال استمرار تزايد حدّة موجات البرد المتزامنة مع استمرار الخفوت الشمسي في المستقبل القريب والبعيد، عندها نبني على الشيء مقتضاه. السنوات المقبلة وحدها ستوفّر الدليل القاطع وبخاصة أنّ الإحترار الحراري، ووفقًا للأستاذ كلايغ، سيسبب تغيّر الأنظمة التي تتحكم بالمناخ، ممّا سيولّد تطرّفًا في الصيف والشتاء مع احترار وبرودة قياسيّين. ما يعني أنّ الاحتباس الحراري نفسه، وبمعزل عن الخفوت الشمسي، قد يدعم بداية حقبة باردة. في ضمن هذا السياق تندرج حركة التيارات البحرية في المحيطات التي لها تأثير كبير في مناخ الأرض. فذوبان جليد القطب الشمالي في السنوات الماضية نتيجة ارتفاع حرارة الكوكب، أدى إلى زيادة كمية المياه العذبة وتاليًا انخفاض ملوحة شمالي المحيط الأطلسي، ممّا أدى إلى إنخفاض قياسي، لاحظه العلماء مؤخّرًا، في سرعة تيار الخليج (Gulf Stream) في المحيط. هذا التراجع سيعيق نقل الحرارة إلى السواحل الشمالية الغربية لأوروبا ممّا قد يغرقها في البرد والصقيع مستقبلًا.

 

أمام هذا الواقع المعقّد، وفوضى الطقس العارمة، لا يسعنا أخيرًا سوى طرح هذه التساؤلات : ماذا ينتظر كوكب الأرض في السنوات المقبلة بطقسها ومناخها؟ هل الاحتباس الحراري اليوم قد يصبح عصرًا جليديًا غدًا؟ وماذا لو التقى العصرالجليدي المصغر بالاحتباس الحراري؟! هل يصبح عندئذ الكوكب بين حريق وجليد؟!! أم أنّ الخفوت الشمسي سيحدّ من ارتفاع الحرارة الناتجة عن الاحترار العالمي وتاليًا يصل كوكب الأرض الى حالة استقرار وتوازن حراري؟ إنّ الغد لناظره قريب...

 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم