الأحد - 28 نيسان 2024

إعلان

الشعوب المقهورة والدين القويم

المصدر: النهار - يوسف علي بوسف - العراق
الشعوب المقهورة هي تلك الشعوب التي تعيش تحت مطرقة الجوع والفقر وسندان السلطة
الشعوب المقهورة هي تلك الشعوب التي تعيش تحت مطرقة الجوع والفقر وسندان السلطة
A+ A-
الشعوب المقهورة هي تلك الشعوب التي تعيش تحت مطرقة الجوع والفقر وسندان السلطة، وهذا حال معظم الشعوب العربية في الوقت الحاضر، وأن ما عانته البلاد العربية في العقود الأخيرة المنصرمة وإلى يومنا هذا توضع تحت مسمى الشعوب المقهورة، حيث إنها تعاني ضعفاً كبيراً في إنتاج العلماء والابتعاد عن نهر الأخلاق والتديّن الحقيقي، ما يجعلها تتجه في إتجاه معاكس للبلاد الأخرى المتطورة، وأن من تبعات هذا التخلف والقهر هو انجرار المجتمع خلف العنجهية والاستبداد والتخلف المعرفي والإصغاء إلى الترهات والأقاويل الواهية، لذلك في هذه المجتمعات يكثر المنجمون والسحرة والكذابون والمخادعون، ويلمع نجم المتطفلين والمتسلقين ويكثر هذا النوع من الأفراد لأنهم يجدون بيئة تشجع على نموهم وتفرعهم، فالمتطفل حين ينطق لا ينطق إلا عن جهل أو خدعة أو كذب وما نطق بذلك لولا معرفته بمدى وعي جمهوره وبيئته لذلك يجد من يصدقه ويؤمن بأقاويله الواهية.
لو نتمعن قليلًا بواقع المجتمع العراقي لوجدنا فيه سوء أخلاق وتخلفاً دينياً ومعرفياً كبيراً، وهذه المخرجات لن تأتي من فراغ بل جاءت من تراكم عوامل أخلاقية ودينية، فاليوم الشارع العراقي يعج بالتدين، والكثير من الأفراد باتوا يدعون بنزولهم من سلالة آل البيت (عليهم السلام) وعلى المجتمع كونه مجتمعاً دينياً "ظاهراً" أن ينساق لأقاويل هؤلاء الأفراد، وهنا لا أجزم وألغي وجود من هم من نسل آل البيت (عليهم السلام)، على العكس وإلا أين ذهب نسلهم، لكن ما يثير التساؤل هو هذا العدد الهائل.
لذلك أصبح العبث في عقول هذا المجتمع بيد هذه الفئة، وتخرج من هذه الفئة فئة السحرة والمشعوذين وقراء الطالع وغيرهم، والمصيبة أن جميع هؤلاء يجدون حواضن لهم وبيئة طرية تحتضنهم، فكل ما يقع على عاتقهم يكذبون بشتى الطرق وبذلك يغدق عليهم المجتمع ما يملكون وبالتالي تزداد هذه الفئة تخمة ومالاً، ويزداد المجتمع تخلفاً وفقراً وجهلاً، وأن هذا المنجم والساحر وقارئ الطالع وما شابههم لا يمكن لأي مخلوق أن يشنع أعمالهم وردع سلوكياتهم الباطلة لأنهم متسلحون بجمهور كبير من السذج والجُهّل فهم يعتبرونهم ورثة الله ودلالة الحق في الأرض والنور الذي يفتح أبصارهم متباركين بذكرهم مصدقين شعوذتهم وممتنين لوجودهم.
فيقول مؤسس علم الاجتماع العلامة (عبد الرحمن بن خلدون) في هذا الصدد في كتابه مقدمة ابن خلدون:
- عِندما تَنهار الأَوطان يَكثر المُنَجِمون والمُتَسَوّلون والمُنَافِقُون والمُدَّعون والقَوَّالون والمُتَصَعلِكون، وضَارِبو المَندَل وقَارئو الكَف والطَالع، والمُتَسَيسون والمَداحُون والإِنتِهَازيون، فَيَختَلطُ ما لا يُختَلط، ويَختَلطَ الصِدق بِالكَذب والجِهاد بِالقَتل، ويَسود الرُعب ويَلوذ النَاسُ بِالطَوائف، ويَعلو صَوت البَاطل ويَخفُت صَوت الحَق، وتَشح الأَحلام ويَموت الأَمل، وتَزداد غُربة العَاقل، ويُصبِح الانتماء إِلى القَبيلَةِ أَشَد إِلصَاقاً وإِلى الأَوطان ضَرباً مِن ضَروبِ الهَذَيَان.
لذلك بعد أن يصبح الشعب مقهوراً، يُقهر من الفقر والجهل والكذب والسلوكيات المتعفنة. إن هؤلاء الأفراد المنتفعين لم يكونوا صدفة في تاريخ هذا العالم بل هم فئة توجد في كل خراب وفي جميع المجتمعات المتخلفة، فعندما كانت أوروبا، والمجتمع الانكليزي على وجه الخصوص في القرن الثالث عشر إلى القرن السادس عشر يعاني من فترة سيادة الدين المضلل وظهور هذه الفئة من المشعوذين والكذابين الذين يكذبون على الناس بشتى الطرق والحيل وما على الناس إلا التصديق والإيمان بهم وبأقاويلهم لذلك كانت مخرجات تلك الحقبة جهلاً كبيراً وجوعاً وقحطاً وحروباً أهلية طاحنة وخسائر بشرية كبيرة كل هذه المخرجات جاءت بسبب إنجرار المجتمع خلف فئة من المنتفعين.
إن مرحلة القهر الاجتماعي هي قتل جماعي للأفراد أصحاب العقول النيرة والدين القويم وذوي المعرفة والعلم، إما من ينمو في هذه المرحلة هم فئة من المجتمع يزاحمون صاحب العقل الراجح بغبائهم المفجع وجوعهم السلطوي المتقع، وكانت ضريبة هذا التخلف هو انطماس فئة كبيرة من العلماء العقلاء، وانعدام اقتناع المجمتع بالمتعقلين كونهم يديرون شؤون المجتمع وفقا للعقل والمنطق العلمي والمعرفي، إلا أن المجتمع لا يؤمن بهذا النوع من الإدارة كونها لا تلتصق بالدين ولا بالعادات والتقاليد والأعراف، وأنهم لا يمتثلون للعقل بل للدين والمعتقدات الرجعية، بينما العقلاء يفهمون الدين بطريقة تختلف تمامًا عن مفهوم المشعوذ والمتسلق والمتطفل وجمهوره الجاهل.
لذلك عندما ذهب المجتمع الإنجليزي باتجاه العقل والمنطق العلمي والمعرفي اضمحل وجود المشعوذين واندحر كل متسلق على الدين كون أن المجتمع بات يعطي الأولوية لأصحاب العقول والذين بإمكانهم نقل المجتمع، وبهذا بدؤوا برفد من لهم الحق في إنقاذهم ونقلهم إلى جادة الصواب، وعندما تسيّد العلم وبات صاحب العقل هو صاحب القرار دُحر صاحب البدعة وعاد أدراجه، فتجده يتسول، أو يترنح في الحانات الليلية أو هرب بعيداً عن أنظار المجتمع الذي طالما كذب عليه وخدعه.
بهذا لا أرفض الدين، بل أعطيه شأنه ومقامه الحقيقي، فالدين وسلوكياته القويمة لا تأتي من الجُهّل المتعجرفين ولا السياسة تدار بالكذب والتعجرف، ولا المجتمع يمكن أن يقوده متطفلون.
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم