الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

حرب الإقليم "المفتوحة" وتفاهة التحليل

المصدر: "النهار"
تعبيريّة.
تعبيريّة.
A+ A-
د. رائد المصري/أستاذ محاضر في الفكر السياسيّ والعلاقات الدوليّة.
 
سالت الأقلام التحليلية في المنطقة وحول العالم، بعد الضربة العسكرية الإسرائيلية للقنصلية الإيرانية في دمشق، والذي يُعدّ عملاً عدوانياً خطيراً غير محسوب النتائج والتداعيات، وفاض حِبْر التوقُّعات ما بين الردّ الإيراني الصاعق ومعه محور المقاومة، أو السكوت والاكتفاء بضربات موضعية لمنع توسُّع الحرب، ممَّا يقلب طاولة أوراق اللَّعب في الشرق الأوسط رأساً على عقب، وكلّها تحليلات لا تستند إلى قراءات موضوعية علمية بذات خبرة ومعرفة واضطلاع على المعلومات، من أصحاب القرار الحقيقيين والمسؤولين عن جرِّ المنطقة إلى أتون حرب كبرى، تُعيد رسم جغرافيّتها من جديد، بعد أن شهد العالم منذ أكثر من ثلاثة عقود حروباً بالواسطة وتكتيكات عسكرية موضعية، عبر تجميع النقاط بين المتخاصمين على حلبة الصراع، من دون حسم عسكريّ واضح، قادر أن يرجِّح كفَّة الحرب لطرف على حساب طرف آخر، وهذا هو الخطأ الشائع والمغلوط الذي يقع فيه أغلب المحلِّلين وقرَّاء هذا الزمان. وإليكم التفاصيل:
 
دعونا نقرّ أولاً بصعوبة تعامل الغرب وإسرائيل بالتحديد في قضايا الصراع بالمنطقة مع إيران، خصوصاً بعد أن بَنَت لها خطوط دفاع متقدّمة من الفصائل المسلحة في سوريا والعراق ولبنان واليمن، تكون كفيلة بالتعامل مع أيّ حدث قد يخرج عن السيطرة في وجه أميركا وإسرائيل، فهو سيناريو ذكيّ تستطيع طهران التملُّص منه في أيّ مواجهة بسهولة، رغم أنها تلقَّت العديد من الضربات المباشرة، عبر اغتيال علماء وقادة عسكريين في الحرس الثوري، حيث الحدث الأبرز اليوم تشكَّل في الضرب الإسرائيلي المباشر لإيران في دارة قنصليتها، وتركها الوكلاء أو الأذرع العسكرية التي نصَّبتها طهران سابقاً ضمن مشرع تحرير القدس وفلسطين.
وتأتي دعوة القائد العسكري لـ"كتائب القسام" محمّد الضيف لما أسماهم أبناء الوطن العربي والإسلامي، إلى الزحف نحو فلسطين للمشاركة في تحرير الأقصى، فالترجمة العملية لذلك هي بدء طوفان أقصى عربي وإسلامي، لكنّ الدعوة بقيت بلا تنفيذ فعليّ، بغضِّ النظر عن التضامن مع قضية فلسطين وشعبها، فلا زحف من أيّ بلد عربي، ولا من يزحفون من أيّ بلد إسلامي، وهذا يحيلنا إلى فكرة وقضية التغيير في النظام الرسميّ العربيّ، سواء أكان في سوريا أم مصر أو تونس أو العراق أو لبنان أو اليمن، حيث أنّ موقف إيران وحلفائها من هذه القوى التغييرية، كان ولا يزال متذبذباً ومعترضاً وفيه الكثير من رمْي الحُرمات وتُهَم العمالة على القوى التغييرية والثورية في العديد من البلدان العربية، التي يناجي قادة محور المقاومة وأذرع إيران وحتى قادة إيران، بضرورة الانقلاب على ما سمُّوه الطُّغم الحاكمة العميلة للمشروع الأميركي الإسرائيلي. فهذا هو جوهر التناقض في التعامل مع قضايا المنطقة، فإيران كانت ضدّ ثورة الشعب السوريّ على نظامه، لكنّها مع ثورة البحرين، وهي كانت ضدّ ثورة الشعب اللبنانيّ ضدّ النظام الطائفي الحاكم واتّهمته بالعمالة للغرب، لكنّها كانت مع ثورة اليمن والحوثي والانقسام الحاصل في هذا البلد، بحجَّة أنّها مع كلّ شرعية بعدم الجواز الديني وفتاويه من الانقلاب على الشرعية، أليس في البحرين شرعية للحكم ومثلها في اليمن، وكذلك في أوكرانيا بعد الإطاحة بـ"يانوكوفيتش"؟
 
لا يستطيع العالم أن يتعامل بازدواجيتين مع شرعية الحكم لدى بعض البلدان العربية القائمة، لمجرّد أن يكون التصنيف أحادياً من قبل إيران ومحور حلفائها، ولذلك فَطِن محور المقاومة اليوم كلّه بضرورة الانقلاب على النظم الحاكمة، وهو الذي أطلق أيادي قوى أحزابه الطائفية الصَّلبة في لبنان والعراق لضرب الناس ومنعها حتّى من التعبير عن رأيها، أو قيادة أيّ تغيير في نظم الحكم القائمة خاصّة في سوريا ولبنان والعراق، لكنّه يرغب بهذا التغيير الآن في الأردن مصر وداخل الضفة الغربية وبلاد الخليج.
 
لا نستطيع أن ندير ظهرنا للسياقات والتحوُّلات التاريخية والمجتمعية والسياسية والاقتصادية والفكرية، ولا يجب إعفاء النخبة الاجتماعية والسياسية الحاكمة، من مسؤولياتها عن استمرار التخلف وفشل بناء الدول في المواجهة، وتلقّي الضربات الدائمة باستمرار، فالسبب الرئيس لإعاقة مسيرة التطوّر والتقدّم الحضاري والسياسي في المجتمعات العربية وفي دول الطوق حول إسرائيل، يكمن في المصادر الدينية والثقافية، وكذلك في الدولة "التحديثية" نفسها التي نشأت بفعل التحرّر من الاستعمار وتحرير فلسطين، التي راهنت عليها المجتمعات والشعوب العربية من أجل تقدّمها والحفاظ على سيادتها وتحريرها و"فشلت"، حيث الطائفية نفسها أيضاً تشكّل إفرازاً من إفرازات الحداثة الصدئة، التي حاولت النظم الحاكمة في الدولة ترويجها واستخدامها بشكل دائم ومتعمَّد، وحتى اعتماد اللَّعب بما يقود إلى حرب أو صراع سياسيّ وأهلي حادّ في لبنان أو الأردن، ليس مجرّد عمل خطر ضدّ مصلحة البلد والأكثرية الرافضة للتورُّط في أيّ حرب، ولا هو عمل يخدم قضية فلسطين وشعب غزة، بل يخدم المشروع والترتيب الإقليمي الجاري إقامته على حساب أمن الشعوب واستقرارها، وهو محكوم بالفشل في لبنان في النهاية، ومحكوم بالفشل كذلك في الأردن.
 
أخيراً، وليس من باب التفصيل أو التباهي، فاستهداف إسرائيل مبنى القنصليّة الإيرانيّة في دِمَشق ليسَ مجرَّد حدث عابر، وأيضاً أسلوب وطريقة اغتيال محمّد رضا زاهدي ونائبه محمّد هادي حاج رحيمي في عزِّ النهار ومن أجواء سوريا، وهو في أرض إيرانيّة، فهو يُعتَبر أكثر أهمّية من قائد "فيلق القدس" إسماعيل قاآني، ويُعدّ اليد التنفيذيّة لإيران والمُشرف على عمليّات أذرعها من البوكمال حتّى النّاقورة جنوب لبنان، وهو الشّخصيّة الأبرز الوحيدة في مجلس شورى "حزب الله" في لبنان، ولذلك باتت طهران أمام خيارين صعبين:
فإمّا أن تُقدِم على الرّدّ بحجم الضربة الإسرائيلية، وهذا حكماً سيؤدِّي إلى انزلاق المنطقة برمّتها نحوَ حربٍ إقليميّة واسعة، ليس بمقدور الإيراني ولا الأميركي حتّى توقُّع نتائجها أو احتواء تداعياتها.
وإمّا أن تُحجِم طهران عن الانتقام من إسرائيل وتكتفي بضربة "حفظ ماء الوجه"، وهذا يتسبَّب بعواقب عسكريّة وأمنيّة وسياسيّة، منها استمرار تل أبيب بضربِ إيران وقادتها بشكلٍ مُباشر في سوريا ولبنان والعراق وغيرها، وبهذا تتهشّم صورتها أمام حلفائها وخصومها، وتتحوّل إلى دولة وظيفية فاقدة لأوراق القوّة التي شكَّلتها منذ انتصار الثورة عام 1979، وهي اليوم باتت في مأزق استراتيجيّ، وهذا يعني أنّ انتقامها مؤكّد وآتٍ لكنّه ينتظر المخرجات، ردّاً على استهداف وضرب قنصليّتها في سوريا.
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم