الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

أي فلسفة أم أي سخرية في زمن الخيبات اللبناني؟

المصدر: "النهار"
غسان صليبي
تعبيرية.
تعبيرية.
A+ A-
الخيبة، تعريفاً، هي عدم قدرة شخص على تحقيق رغبته. لكن الخيبة الفعلية تحلّ عليك عندما تتوقع تحقيق رغبتك لكنك تفشل في ذلك. "مصدر كلمة خابَ، هو خيبة، ونقول خيبة الأمل أي عدم تحقيق ما كان يُرْجى".

ماذا عن الخيبات على المستوى الوطني: خيبات أمل معظم الشعب اللبناني من بناء دولة تحفظ له أمنه تجاه الخارج، وفي الداخل في إطارٍ من السلم الأهلي، وتقدّم له الخدمات العامة الأساسية، من تعليم وصحّة ونقل وكهرباء ومياه، في سياق سياسات اقتصادية- اجتماعية تطمح لإرساء أسس العدالة الإجتماعية؟

"حينما ينهمر عليك عالم من الخيبات، تنتقل إما إلى الفلسفة أو الى السخرية". لا أعرف متى وفي أي ظرف قالها تشارلي تشابلن. لكن تعبير "عالم من الخيبات" يفترض كمّاً هائلاً من الخيبات، ممّا يجعلنا نتماهى مع ما قاله شابلن، نحن اللبنانيين الذين "انهمرت علينا الخيبات" على مرّ السنين، بالرغم من محاولات الشعب المتكرّرة لتغيير أوضاعه نحو الأفضل.

لكن هذه الخيبات المتراكمة، لا سيما منذ اندلاع الحرب في لبنان سنة ١٩٧٥، تحوّلت إلى ما يشبه اليأس المطلق من تحقيق رغبات اللبنانيين. فقد زاد الامرَ انسداداً زجُّ محور "الممانعة" لبنان في صراع المحاور الإقليمية والدولية، وأخيراً ربط مصيره بالحرب على غزة، بعد أن سبق ورُبط أمنه الإقليمي بتحرير مزارع شبعا، التي - للمفارقة - لا يعترف لنا بها النظام السوري نفسه، وهو أحد أطراف محور "الممانعة"، مما يضعنا في دوّامة لا مخرج منها، ويشرّع المقاومة إلى الأبد، مع ما يستتبع ذلك من حالة نفسيّة إن لم تكن فعليّة من الحرب الدائمة.

شابلن اختار السخرية بمواجهة انهمار عالم الخيبات على رأسه؛ فسخر من الأنظمة والصناعة والزعماء والأغنياء والعادات، أي من كلّ من وما يتسبّب بخيبات للبشر.

فأيّ فلسفة، وأيّ سخرية أمام هذا الانسداد الوطني، الذي ينعكس على كافة المستويات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية؟

كثيرون من الشعب اللبناني، كتاباً وفنانين ومواطنين عاديين، لجأوا إلى السخرية من الأوضاع ومن الزعماء، فكانت لهم السلطات السياسية والقضائية والأمنية بالمرصاد، عبر ملاحقتهم قضائياً. لكن النزعة نحو السخرية لا تزال تفعل فعلها بالرغم من المضايقات والتهديدات، حتى أنها طغت على الفلسفة، أي على الكلام الذي يحاول إيجاد مقاربات وخيارات فكرية تدلّنا إلى طريق الخروج من مستنقع الخيبات الذي نعيش فيه. وهذا ما يريح، في نهاية الأمر، السلطات نفسها التي تثأر من السخرية، لا خوفاً من تأثيرها في الأوضاع، بل حفاظاً على ما تبقى لها من صورة إيجابية أمام نفسها وأمام أتباعها، هي الفاشلة والخاضعة أيضاً للاعتبارات الإقليمية والدولية ولسلطة السّلاح.

أفهم تماما انكفاء الأفكار حول سبل تغيير الواقع، المتفاقم دوماً وأبداً. فقد عاينتُ بالتفصيل "متاهات التغيير في زمن الممانعة" في كتابي الصادر منذ نحو سنة بنفس العنوان.

بتّ أميل إلى الاعتقاد أن "الوجود" كما نعايشه اليوم هو أقرب إلى العالم كما تراه الفلسفة العبثيّة.

فالعبث، بالنسبة إلى الفلسفة العبثية، هو "التناقض بين البحث عن المعنى ورغبة الإنسان العميقة في الفهم (حاجته العميقة لإعطاء معنى لأفعاله وللكون)، والطابع غير العقلاني للعالم، حيث إنه فارغ من المعنى والتفسيرات،" بحيث "يولد العبث من هذه المواجهة بين الدعوة الإنسانية وصمت العالم غير المعقول".

أعرف تماماً أن الظروف التي نشأت فيها الفلسفة العبثية تختلف عن الظروف التي نعانيها؛ وإن كانت هي أيضاً راكمت تأثيرات الحربين العالميّتين في أوروبا.

مع ذلك، باتت ظروفنا أقرب بتطوراتها إلى اللاعقلانية التي يتصف بها العالم بحسب الفلسفة العبثية. خذوا مثلاً الدوران في حلقة مفرغة في قضية انفجار المرفأ، وفي مسألة انتخاب رئيس للجمهورية، وفي الحرب ضدّ إسرائيل في الجنوب ربطاً بالحرب في غزة. فمن أين نأتي بالعقلانية لتفسير ما يجري، ومن تكرار المكرّر للمرّة الألف؟ هل من الدستور والقانون أم من حدّ أدنى من المصلحة العامة، أم من المنطق البسيط الذي يحتّم الحفاظ على حدّ أدنى من الشروط لبقاء البلاد وشعبها على قيد الحياة؟

لا شك في أن ما يجري له تفسيراته، على عكس العالم الفاقد لأيّ تفسيرات، وفق ما تقول الفلسفة العبثية. لكن التفسيرات عندنا لامست هي أيضاً اللاعقلانية، كما تفسيرات العالم العبثي. وربما كانت هذه اللاعقلانية متأتّية من جهة من رجحان منطق السلاح، الذي بات يهدف إلى حماية نفسه، بغض النظر عن الاعتبارات الأخرى؛ ومن جهة ثانية هي متأتّية من المنطق الخارجي الغريب عن الاعتبارات المحليّة. وفي المنطقين لاعقلانية من وجهة نظر آليات العمل على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الوطنية.

هذه اللاعقلانية تلفّنا أيضاً في تفاعلاتها على حدودنا الشمالية والجنوبية، في سوريا وفي فلسطين، لا سيما هذه اللاعقلانية التي طبعت حرب إسرائيل على غزة ومعها الصمت المؤسساتي الدولي من فعل الإبادة بحق الشعب الفلسطيني.

في مواجهة عبثية العالم، طرح الفيلسوف العبثي، ألبير كامو، ثلاثة خيارات: الانتحار، الدين، والانتفاض، في محاولة لإعطاء معنى لحياة الإنسان.

يبدو أن الخيار الديني هو الأكثر جاذبية اليوم في لبنان، فيما الانتحار والانتفاض يأتيان في المرتبة الثانية أو الثالثة، مع مخافة أن يتقدم الانتحار على الانتفاض، بعد أن انكفأت الحالة الانتفاضية التي نافست الخيار الديني بين سنتي ٢٠١٩ و٢٠٢٠.

خياري الشخصي لا يزال الانتفاض، ولو أنه ينحدر تدريجياً من المستوى السياسي إلى المستويات الأدنى، النقابية والاجتماعية، إلا إن سلك شعبنا أحد الطريقين أو الاثنين معاً، اللذين حدّدتهما في مقالي في صحيفة "النهار" بعنوان "طريقان للخروج من بين جدران حزب الله الأربعة". الجدران الأربعة هي: قمع الانتفاضة ولجمها، تعطيل التحقيق بانفجار المرفأ، تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية، والدخول في حرب ضد إسرائيل وربط مصير لبنان بالحرب في غزة. أما الطريقان فهما: إمّا قيام معارضة وطنية تطالب بحصر السلاح بيد الدولة وباستراتيجية دفاعية للدولة يكون الحزب جزءاً منها، وإمّا بسلوك طريق الفيديرالية. الطرق الأخرى تبدو لي للأسف عبثية.
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم