الأحد - 28 نيسان 2024

إعلان

الله الحاضر الغائب طيلة شهر نيسان لماذا تراه يختبئ منا؟

المصدر: "النهار"
غسان صليبي
تعبيرية.
تعبيرية.
A+ A-
غريب أمر شهر نيسان هذه السنة، بدأ بـ"كذبة أول نيسان" كعادته، لكنه انتهى بالمناسبات الدينية، اليهودية والمسيحية والاسلامية. انتقلنا معه من الأكاذيب البشرية البيضاء، الى ما تعتبره الأديان حقائق مطلقة: بدءاً بعيد الفصح اليهودي للاحتفال بذكرى عبور بني اسرائيل من مصر الفرعونية، مروراً بصلب المسيح وقيامته في عيد الفصح المسيحي، انتهاء بعيد الفطر الإسلامي في ختام شهر رمضان الذي بدأ فيه نزول القرآن.
 
لم يكتفِ نيسان باحتضان المناسبات الدينية، بل شهد اعتداءات الأحزاب الدينية اليهودية على المصلّين في الأقصى في مدينة القدس في فلسطين، مما استدعى رداً صاروخياً من حركة "حماس" العسكرية-الدينية، انطلاقاً من غزة ولبنان، حيث يرعى "حزب الله" العسكري-الديني، منظمات الممانعة، بتوجيه من النظام العسكري-الديني الإيراني. سبق إطلاق الصواريخ، لقاء صلاة في بكركي للنواب المسيحيين، في رعاية البطريرك بشارة الراعي، من أجل التأمل في ما آلت اليه الأمور في لبنان، مع تعطّل انتخاب رئيس للجمهورية.
 
ها هو الله، الإله الواحد للأديان السماوية، كما تؤكد الاديان التوحيدية الثلاثة، اليهودية والمسيحية والاسلامية، يحتكر زمن شهر نيسان، حرباً وسلماً. فاختلطت في رأسي تراتيل الصلوات في الكنائس بصراخ اليهود المتطرفين في الأقصى، بانفجارات الصواريخ، بصلوات المسلمين في الجوامع. وجميعها أطلقت بإسم الله.
 
في عجقة الحقائق الدينية المطلقة المترافقة مع الاسرار المقدسة، وفي ظل الحضور الرمزي الطاغي لله في شهر نيسان، سؤالٌ أصليّ، بأصالة الخطيئة الاصلية، تسلّل وألحّ عليّ وأنا أواكب الأحداث العسكرية والمناسبات الدينية: اذا كان الله موجوداً، فلماذا يختبئ منا؟ لماذا يرسل إلينا الأنبياء كما تخبرنا الأديان، ولا يحضر هو بنفسه؟ لماذا تخبر عنه الأديان بطريقتها الخاصة، فتختلف شخصيته وطباعه وأفكاره، من دين الى آخر وفي الدين نفسه، حتى تخال انك أمام أكثر من اله، رغم تأكيد الاديان التوحيدية انه واحد؟ لماذا يترك الله القوى الدينية تتكلم بإسمه وتتحكم على هواها بحيوات البشر في حروب لا تنتهي؟
 
تتفق الأديان على أن الله يرانا أينما كنا ومهما فعلنا، فيما تقر بأننا نحن البشر، لا نستطيع أن نراه. ليس من عادة الأديان أن تناقش هذه الفرضية، فهي تناسبها، اذ انها تعفيها من مهمة إثبات وجود الله. تتقبل الأديان أن يتعامل معنا الله بالألغاز والإشارات ومن بعيد، فهو الله، ويحق لله ما لا يحق للإنسان.
 
لا أتقبل شخصياً هذا الاستصغار للانسان، حتى لو تقبلتُ عظمة الله، اذا كان موجوداً. فهذا يمسّ بكرامتي الانسانية، ولا أجد لهذا الاستصغار مبرراً مقنعاً، لعقلي البشري. فلماذا الإكثار  من الأسرار، لماذا علينا كبشر أن نشقى ونتعذب ونمرّ في التجارب، حتى نتعرّف إلى ماهية الله، إن لم نستطع رؤيته؟
 
طالما نحن على صورة الله بحسب المؤمنين، أو هو على صورتنا بحسب الملحدين، الطريقة المنطقية لفهم أسباب اختباء الله منا، هي أن نسأل أنفسنا لماذا نحن نختبئ في العادة، علنا نفهم لماذا يختبئ هو بدوره. نختبئ عندما نخاف من الآخرين، أو لأننا قتلنا أو سرقنا أو ارتكبنا عملاً نخجل به أو نُعاقَب عليه، أو لأننا نعاني من الاكتئاب أو التوحد. فهل نستنتج أن الله يختبئ منا لأنه تنطبق عليه واحدة أو اكثر من هذه الحالات؟ فكرة عظمة الله، لا تسمح لنا بتقبل مثل هذه الفرضية التي تقلل قيمته. لا بد اذا من تفسيرات أخرى.
 
فهل بات الله يخجل منا ويشعر بالذنب تجاهنا ويستصعب بالتالي مواجهتنا، بعدما تبين له أن خليقته لا تتوفر لها الشروط الجسدية والبيئية والمعيشية والسياسية، لتعيش بيسر وحب وسلام؟
 أو أنه بات يخشى الا يصدق حقيقته أحد، بعدما شوّه صورته رجال الدين والسلطة، وربما الأنبياء انفسهم؟
 
 أو أنه فعلا ظهر لنا بجسد ابنه يسوع، وهذه عن حق في حال صحتها، خطوة مهمة نحو إخراج الله من مخبئه، وجعله يتصالح مع البشر؟
 
لكن الدين المسيحي نفسه يعود ويعقّد لنا الامور بالأسرار، وأبرزها سر الثالوث الأقدس، "الآب والابن والروح القدس الإله الواحد"، هذا السر الذي اختلف في شأن تفسيره مسيحيون كثر، وأُحرِقت منشورات واضطهد بشرٌ وقُتلوا.
 
تتعقد الأمور أكثر مع سر قيامة يسوع من بين الاموات، فطالما أن الله تجسد بشخص يسوع، لماذا العودة إلى الوراء وجعل القيامة من بين الأموات، حدثاً يتأرجح بين الغموض والوضوح، وبين الوهم والحقيقة، بالنسبة لعامة الناس، حتى ولو اعطوا الانطباع بأن ايمانهم صلب، حين يرددون "المسيح قام حقا قام، ونحن شهود على ذلك"؟ الرسول بولس نفسه ينبّه الى انه "إن لم نؤمن بالقيامة يكون إيماننا عبثا"، مما يعكس شبه اعتراف منه بصعوبة الجزم بهذا الموضوع.
 
معظم هذه التساؤلات، تستمد خلفيتها من نظرة الأديان السماوية التوحيدية لله، فيما انا، ذو النزعة الانسانية، يغيظني في هذه النظرة، تسلط إله الأديان على الإنسان، اذ يبدو كأنه يعطي نفسه الحق بأن يسيّر الانسان ويختبره في متاهات الاسرار، مع ما يرافق ذلك، من قلق وخوف وعقوبات وعذابات انسانية.
لذلك سأخرج من نظرة الأديان التوحيدية لله، التي لم تقنعني في بحثي عن سبب اختباء الله من البشر.
 
فماذا لو لم يكن الله "كائنا" كما تفترض الأديان التوحيدية، بل هذه "الطاقة الكونية" غير المرئية، التي يتكلم عنها البعض؟ هذه "الطاقة الكونية" التي تمدنا بنبض الحياة، لذلك يقول المؤمنون بها، انها في كل مكان وفي قلوب البشر، على حد سواء. هذا المفهوم لله، أقرب إلى معنى كلمة الله  Dieu  في اللغة اللاتينية، حيث تشير الى لمعان الضوء أو النور السماوي.
 
أو ماذا لو كان الله هذه "الكلمة"، التي يقصدونها عندما يقولون "في البدء كان الكلمة"، لكن دون ان يستخلصوا ما يترتب على ذلك من اقتناعات. فـ"الكلمة" هي ما ابتكرناه نحن كبشر، في مرحلة من تاريخنا، حتى نتواصل بعضنا مع بعض. فهل يكون الله هو هذا الوصل بيننا، الذي سماه بعضنا "محبة" لوصف أعلى مرتباته؟
اذا كان الله "الطاقة الكونية" أو "الكلمة"، وللكلمة مفعول الطاقة على البشر لناحية التأثير بتقلبات الجسد والروح، فهل يبقى السؤال "لماذا يختبئ الله منا؟" أم يصبح "لماذا نختبئ نحن من الله؟".
 
لماذا نختبئ نحن من الله، في بعدنا عن المحبة، وفي التنكر لطاقة الجسد وتواصلها الحتمي مع "الطاقة الكونية"، من خلال الروح، التي ليست سوى حلقة الوصل هذه؟
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم