الأحد - 28 نيسان 2024

إعلان

من راقب الدولار مات همًّا... لبنان ومؤشر "التمويل البنزي" و"الإنكار الكبير" و"الكساد المتعمّد"

المصدر: "النهار"
أرشيفيّة.
أرشيفيّة.
A+ A-
*محمد فحيلي، خبير مخاطر مصرفية وباحث في الاقتصاد

عند طيّ صفحة الحرب الأهلية بتوصيفها واللاأهلية بكل مكوناتها وأسبابها وتداعياتها، كان الشرطان الأساسيان لإنقاذ لبنان وإعادة الحياة لاقتصاده الدولرة الشاملة وتثبيت سعر صرف الدولار على سعر وسطي 1507 ليرات للدولار الواحد. الغاية من ذلك كانت التأسيس لإعادة ترميم الثقة بقدرات الاقتصاد اللبناني وبالعملة الوطنية لتحسين حظوظ لبنان باستقطاب رأسمال من الخارج للمساهمة في إعادة الإعمار. حافظت الليرة اللبنانية على "كرامتها" خلال الجزء الأكبر من الحرب التي اندلعت في سنة 1975، ومُنيت بالانتكاسة الكبرى في أوخر الثمانينيات حيث لامس سعر الصرف عتبة
الـ3000 ليرة للدولار الواحد بعد أن كان دون الـ10 ليرات للدولار الواحد معظم سنوات الحرب. في بلد يستورد معظم ما يستهلك ويشرّع أبوابه للتبادل التجاري الحر، لا عجب أن الثابت الأكيد دائما هو الدولار؛ مطلوب في السراء والضراء!

لم ينسحب الدولار من الساحة الاقتصادية خلال سنوات الرخاء وحافظت نسبة الدولرة على 70% كمعدل عام بين الودائع والتسليفات والنشاطات الاقتصادية عموماً. وكانت تزداد تارة لتلامس الـ80% لتعود وتستقر على عتبة
الـ70%.

المحرك الأساسي وراء هذه التقلبات والاضطرابات في نسبة الدولرة كان، في معظم الأحيان، عامل الثقة؛ الثقة بالاقتصاد اللبناني والطبقة السياسية التي تحركه وتتحكم به لخدمة أهدافها السياسية. الاقتصاد في لبنان هو "اقتصاد سياسي"، كما وصفه البنك الدولي في أحد تقاريره. ولهذا السبب حركة الدولار، صعوداً أو هبوطاً، لم يكن في يوم من الأيام الهدف منها مصلحة المواطن اللبناني، بل السياسات النقدية والمالية كانت دائماً تقر وتنفذ لتحقيق مكاسب سياسية لمكونات السلطة وأزلامها.

وهل من مخرج لهذا الإدمان على الدولار؟!
في نظرة عقلانية وعملانية لمكونات الاقتصاد، نستنتج وبسهوله أن الهدف من وراء التمسك بالدولار هو الشعور بالحد الأدنى من الاستقرار عن طريق الاستحواذ على "المناعة النقدية" - إذا صح التعبير - التي توفرها وتضمنها العملة الخضراء:
1. المستهلك اللبناني يريد تأمين المال لتسديد فاتورة الاستهلاك في ظل هبوط سريع في القيمة الشرائية لدخله، واضطرابات مستمرة في سعر صرف الليرة اللبنانية، وتفشي الاحتكار وغياب الرقابة. لم يعد من أولويات المستهلك الإدخار وشراء الأصول.
2. المؤسسات ورجال/سيدات الأعمال يسعون وراء توفير السيولة لدفع المصاريف التشغيلية المتوجبة عليهم والنفقات الاستثمارية لإبقاء مؤسساتهم على قيد الحياة، وللاستمرار في خدمة الاقتصاد؛ مع لفت النظر إلى أن النفقات الاستثمارية أصبحت فقط عند الحاجة الملحة.
3. الدولة هي جزء أساسي من مكونات الاقتصاد والجزء الأكبر من عائداتها يأتي من ضرائب ورسوم تُفرض على نشاطات القطاع الخاص الاقتصادية من عمالة (Labor) وإنتاج (Production) وتسويق (Sales) وغيرها ولن يكون بمقدورها أن تكون بعيدة عما يقوم به المستهلك والمؤسسة التجارية. إذا كان هناك تفشٍّ بالسعي وراء دولرة إيرادات مكونات القطاع الخاص (عمال ومؤسسات)، لن تكون إيرادات الدولة بعيدة عن ذلك، وإلا سوف تنعكس هذه الهوة بين مكونات الاقتصاد على المالية العامة أكثر عجزاً وبهذا نكون أمام استحالة التعافي وتعذر الإنقاذ الذي طال انتظاره.

بما أن كل هذه المكونات الاقتصادية موجودة تحت سقف واحد، يتوجب عليهم اعتماد عملة الدفع ذاتها ليكون هناك الحد الأدنى من التوازن والانتظام بتمويل الدورة الاقتصادية. بات واضحاً أن سعر الصرف الرسمي 1507 ليرات للدولار الواحد لم يعد منطقياً والتمسك به يفرض أكلافاً إضافية وعالية تُسدد مما تبقى من احتياطي مصرف لبنان من العملة الأجنبية؛ وما تبقى هو أموال المودعين من توظيفات المصارف الإلزامية (14%) لدى مصرف لبنان مقابل الودائع بالعملة الأجنبية. وفي المقلب الآخر، أسعار الصرف الأخرى من 8000 ليرة (تعميم مصرف لبنان الأساسي رقم 151) و 12000 ليرة (تعميم مصرف لبنان الأساسي رقم 158) للدولار الواحد فيها إجحاف كبير بحق أصحاب الودائع المصرفية المكونة أصلاً بالعملة الأجنبية، وتتأثر هذه الخسارة بـ:
• سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي في السوق السوداء، سوق التبادل الحر الخالي من أية ضوابط،
•والضوابط التي تفرضها المصارف على السحوبات النقدية من هذه الحسابات. في الواقع، هذه الضوابط تجعل من "الثقل الاقتصادي الفعلي" لهذه الأسعار دون الـ 3000 ليرة للدولار الواحد لكل منها. ولهذا السبب تفقد هذه الأسعار أهميتها في احتساب حجم الاقتصاد أو جزء منه.

من الواضح أن هذا المسار الانحداري لسعر صرف الليرة اللبنانية أصبح القاعدة وليس الاستثناء رغم الانفراجات الظرفية التي تأتي نتيجة تدخل مصرف لبنان في سوق القطع. أما اليوم فإن قدرة المركزي على التدخل باتت خجولة ولا يعَوّل عليها.

أما المولود الجديد في عائلة أسعار صرف الدولار فكان سعر صرف منصة صيرفة. إنشاء هذه المنصة بموجب أحكام تعميم مصرف لبنان الأساسي رقم 157 وآلية التنفيذ الفضفاضة التي هبطت علينا بموجب أحكام التعميم 161 لم تكن إلا دلالة على تدني قدرة المركزي على الاستجابة لرغبات السلطة السياسية بالاستمرار بالدعم العشوائي للاستيراد، وبالتدخل لإنقاذ العملة الوطنية. كان تأسيسها يهدف إلى إنشاء سوق موازية للسوق السوداء لتحويل ما تيسر من عمليات التبادل في سوق القطع ليكون تحت أعين مصرف لبنان الساهرة بعد أن فقد "قانون تنظيم مهنة الصيرفة" القسط الأكبر من أهميته بسبب الفلتان وتعذر الرقابة وفقدان قدرة المركزي على المساءلة والمحاسبة، لأن السياسات الاقتصادية في لبنان هي غب طلب فساد الطبقة الحاكمة.

من أفظع ما أنتجه تمنع الطبقة السياسية عن إقرار الإصلاحات الضرورية وفشلها في إنقاذ الاقتصاد هو تحويل الاقتصاد إلى اقتصاد نقدي، وهذا يجعل كل وسيلة دفع عبر وسائل الدفع المتاحة من خلال القطاع المصرفي تفقد قيمتها بسبب الضوابط المفروضة عليها وفقدان الثقة بالنظام المالي. ولهذا السبب ما يميز السوق السوداء عن غيرها هي حرية التداول. الشرط الأساسي للتبادل في هذه الأسواق هو توفر الأوراق النقدية بين أيادي البائع والشاري؛ وكلما ازداد الطلب على التبادل بالأوراق النقدية، كل ما زاد نزيف المصرف المركزي من الاحتياطي بالعملة الأجنبية، وكل ما زاد تفريغ المصارف من الودائع والمودعين، وكل ما بعدت المسافة بيننا وبين إمكانية تنفيذ الحلول!

واليوم الحديث عن ربط سعر صرف "الدولار الجمركي" بسعر منصة صيرفة، و"توحيد سعر الصرف" هو حديث يفتقد إلى الفقه بالاقتصاد وغني بعدم الإلمام بطبيعة وحجم الأزمة المالية في لبنان:
• منصة صيرفة هي سوق صرف يفتقد إلى حرية وشفافية التبادل بسبب الشروط المفروضة للانخراط فيها والاستنسابية بتطبيق أحكام التعميم ذات الصلة. والكل بات يعرف أن سعر الصرف يحدده مصرف لبنان وهو ليس نتيجة العرض والطلب. والجزء الأكبر من فاتورة الاستيراد يتم تمويله عن طريق دولار السوق السوداء وليس عن طريق دولار منصة صيرفة. هل باستطاعتنا تفسير ربط الدولار الجمركي بسعر منصة صيرفة بأنه نوع من "الدعم المموه" - دعم فرق سعر الصرف بين السوق السوداء (السعر الحقيقي) وسوق منصة صيرفة (السعر المصطنع) في تسديد الرسوم الجمركية.
• أحد أهم الإجراءات المطلوبة لإنقاذ لبنان من أزمته النقدية هو تحرير" وليس "توحيد" سعر الصرف لأن توحيد سعر الصرف يتطلب توفر موارد لدى مصرف لبنان للوصول إلى سعر واحد (وهناك الكثير من الأسعار المصطنعة في التداول قسرا) وهذا السعر قد لا يعكس بالضرورة السعر الناتج عن العرض والطلب وحرية التبادل. المشكل يكون كبيراً جداً إن لم يكن هذا الفرق واضحاً لدى صانعي السياسات النقدية؛ ونكون في أزمة أكبر إذا كانوا يعرفون الفرق واختاروا "توحيد" عوضاً عن "تحرير" سعر الصرف.

الممر الإلزامي لخلاص لبنان من الأزمات الذي يتخبط فيها هو الإصلاح وإعادة هيكلة القطاع العام بكل مكوناته، وتمكين وتفعيل عمل الأجهزة الرقابية، ونشر نهج الحوكمة في إدارة الشأن العام. الدولار بات يحتل الجزء الأكبر من الكيان الاقتصادي في لبنان بسبب تفاقم عامل فقدان الثقة، وأصبح في احتساب دخل الفرد، وفي فاتورة الاستهلاك، وفي كلفة الصناعة، وفي الأقساط المدرسية، وفي فاتورة الاستشفاء وفي كل النشاطات الاقتصادية في القطاع الخاص. مع التأقلم السريع لمكونات القطاع الخاص مع المتغيرات الاقتصادية، استمرار الدولة في دفع الرواتب والأجور بالليرة اللبنانية وتحصيل إيراداتها بهذه العملة المنبوذة اقتصادياً سوف يدفعها وموظفيها إلى "الإستبعاد الاقتصادي"، أي لن تعد الدولة وموظفيها قوة اقتصادية مهمة في الاقتصاد الجديد الذي صنعته وفرضته الظروف على لبنان!
 
 
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم