الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

اكتشافات في المدينة: احتفالات ثقافيّة "على حيلها" في العاصمة التي تبحث عن روحها (صور وفيديو)

المصدر: "النهار"
هنادي الديري
هنادي الديري https://twitter.com/Hanadieldiri
اكتشافات في المدينة.
اكتشافات في المدينة.
A+ A-
واستعادت المدينة تألّقها المعهود. وللحظة، بدا كلّ شيء هادئاً. وكأن لا جوع في الخارج، ولا خوف.
 
وللحظة، هجرنا هذا الثقل المدوّي الذي يستريح بغرور وسكينة على صدورنا.
 
ليلة عيد. الليلة ليلة عيد.
 
والمدينة تبحث عن روحها وسط الوجوه الجوفاء.
 
تنتظر عودتنا، نحن الذين نهرب من أنفسنا.
 
فهيّا بنا، أيها الأصدقاء، نتعامل مع المرحلة الظالمة، وكأنّها أكبر امتحان لرباطة جأشنا ومرونتنا.
 
والفن يُعامل انكسارنا بكثير من التفهّم.
 
 
مشهيّات ثقافيّة، فنيّة، تعيشها المدينة منذ فترة.
 
دعوة إلى عبور النهر من ضفة إلى أخرى.
 
نكاد نسمع خطى الناس على الأرض، وهم يُهرولون في اتّجاه اللوحات والتُراث والموسيقى والغابات المديدة المصنوعة من السيراميك، و"كم ضربة" من فرشاة رسم هذا الفنان الذي يختبئ في مرسمه هرباً من الوجوه الشاحبة التي ترتجف غضباً.
 
أمضينا هذا الشهر المجيد ونحن نزور هذه الغاليري، ونخرج من تلك القرية الميلاديّة، في إصرارنا على تسليط الضوء على أكبر عدد مُمكن من الذين ما زالوا يؤمنون بهذا البلد، ويُصرّون على رواية قصّة مدينة جرفها الطوفان ذات صيف انقلبت فيه المقاييس. مشينا كثيراً في الشوارع المُظلمة جزئياً حتّى في وضح النهار، والتي تترنّح على صدى الدمار وصرخات الخوف والألم. والتنهيدات التي تُمهّد للبدايات، تحوّلت تنهيدات تُعبّر عن التوق للأكل، "وهيك طالع ع بالي آكل متل قبل". وهي مُعلّقة على جدران الأبنية المُتصدّعة. تكاد تسمع همساتها العاتبة.
 
 
مشينا ساعات طويلة في المدينة العائدة من رحلة طويلة في سعينا إلى تغطية فُسحة ثقافيّة، ومُحترف وقرية ميلاديّة. والناس كانوا على الموعد. يخفون انكسارهم خلف القناع. والنظرة تستقرّ على الأعمال الفنيّة، والمشهيّات المصنوعة يدوياً في القرى اللبنانيّة التي "اشتقنالها"، بنهم وتوق إلى الحياة.
أخبرناها كأمر مُسلّم به بأنّ أيام الخير ستدوم، ألَيس كذلك؟
 
"يللا، هيك – هيك محسوبة علينا"!
 
فهيّا، أيها الأصدقاء، نمشي الهوينى في أروقة الإبداع، وكأننا لا نشتهي القوت... و"قرّب ع الطيّب" المصنوع من "كم ضربة من فرشاة رسم" هذا الفنان، ونتذوّق بعض المقرمشات المصنوعة يدوياً من "ديّات" هذه السيّدة التي تستعدّ للمرحلة التالية بكثير من الحذر والترقّب.
 
 
ليلة عيد.
 
الليلة ليلة عيد.
 
"يا أهل الدار"
 
البداية مع معرض "يا أهل الدار" الميلادي من توقيع "دار قنبز" التي هي أكثر من دار نشر، وأقرب إلى منصّة تحتفي بسرد القُصص، وتأخذ على عاتقها القضاء على سوء التفاهم المُزمن مع اللغة العربيّة التي يُعاملها البعض وكأنها الخليلة السريعة العطب. والبعض الآخر، يُعاندها، ويستفزّ أناقتها. وندين توما وسيفين عريس جالتا في القرى والأزقة البعيدة بحثاً عن الأصالة والبساطة بعيداً من "الفزلكة والزنطرة". احتفال حقيقيّ بالتراث والفنّ والتاريخ اللبناني لكي نتمكّن من الهروب "بشي طريقة" من هذا الجحيم. ندين وسيفين تحرصان على الحفاظ على تاريخنا التائه في دوّامة "المحسوبيّات" من خلال هذه الدار العريقة. القليل من الزجل والجاز من فضلكم، من دون أن ننسى الآهات الطربيّة. انصهار حقيقي للحِرف والموسيقى. 5 أيام مع الحرفيين والمُصمّمين والمُزارعين والصانعين والطبّاخين والموسيقيين اللبنانيين في فُسحة "D Beirut" القائمة في الكرنتينا. ساعات طويلة انطوت على الاحتفال بالخلق المحلّي. الطباعة على ألياف الموز، ومنتجات القنب، من فضلكم، و"تبقوا ذكّرونا بالخير". والقليل من "عرق توما" لـ"يُمزمزه" الزائر في الأمسية المُخصّصة للزجل. والزجاج اليدوي ينضمّ إلى المعرض الأقرب إلى "جَمعة" تضمّ الأصدقاء حول الزيتون الصافي، والقمح "القاسي".
 
 
و"تي شيرت" أقرب إلى عمل فنّي، و"مطبوعة حريريّاً على ورق حرفي ومرقّمة وممضيّة". ندين وسيفين تعشقان الاكتشافات. والغور في حنايا القُرى البعيدة، بحثاً عن حلوى الأجداد اللذيذة في راشيا، على سبيل المثال، والأنغام الموسيقيّة البديلة التي تُعامل الأخبار غير السارة والتلميحات التي تغمز إلى نهاية العلاقات العابرة والأخرى المُترسخة في صندوق الذكريات، بكثير من اللامبالاة المدروسة. والموجعة في صدقها. منصّات وآلات. "الكثير من الحب. في بلدنا كميّة هائلة من الحب"، بحسب قول ندين وسيفين. وندين تطلّ على من تعتبرهم "سفراء قنبز" لتقول: "صباح الخير يا أهل الخير والدار والبركة". تُعرّف عبر مواقع التواصل الاجتماعي كما عرّفت في فسحة "دي بيروت" التي استضافت المعرض طوال 5 أيام، عن "خيرات بلادنا" بأسلوبها الحكواتي.
 
سجّادة من قشر اللوز؟ لم لا! وزجاج مصنوع في طرابلس الجميلة حتى النسيان. وهذه الشابة تحيك السترات المصنوعة من الصوف لليالي الشتاء الطويلة حتى الحزن. وطاولة زهر مصنوعة من القماش لا بدّ من أن تليق بـ"سردات" الياس وأنطوان وجوزف وفكتور، و"يا زلمي، شو بها مرتك شارلوت بتضل تعيّطلك هوّي والدقّ حامي؟ ونازلة فينا ع طرق النفس: جوزفّ (مع الإصرار على الشدّة فوق حرف الفاء للتعبير عن التهديد المُستتر)؟".
 
ومحمّد، من المنجدين القلائل الذين ما زالوا يعملون في هذه الصنعة، "الله يطوّل بعمرو". واللبادة تُزيّن الرأس وتتطلّب ساعات طويلة من العمل الدؤوب. و"يالّلي أعصابو موتّرة متلنا كلنا بلبنان"، بحسب ندين، "ما إلو غير زيت الـLavender" العضوي والمصنوع يدويّاً".
 
 
"على المقلب الآخر من الزمن"
 
المهندسة المعماريّة - الفنانة نايلة رومانوس إيليا قدّمت إلى بيروت في أواخر هذا العام المليء بالانكسارات و"فاجعة رايحة وانفجار نووي جايي"، منحوتة مُتعدّدة الهياكل مصنوعة من الإسمنت والفولاذ تُعرض بشكل دائم في الباحة العامة المُجاورة لكنيسة مار الياس في ميناء الحصن، هذه المنطقة التي تقع في جوار البحر وتُسيّجها الزيتونة وتُشرف عليها "من بعيد"، المقابر الجماعيّة التي تُعلن عن نهاية الرحلة. منحوتة يبلغ ارتفاعها تسعة أمتار.
 
منحوتة عملاقة مُتعدّدة الأجزاء أطلقت عليها عنوان:
 
"على المقلب الآخر من الزمن".
 
وقد استلهمت رومانوس إيليا عملها من القصيدة الملحميّة الشهيرة "الكوميديا الإلهيّة" (Divina Commedia)، لدانتي أليغيري الذي يحتفل العالم بالذكرى 700 لوفاته، هو الذي لم يتمكّن الجحيم من تطويع جموحه. هو الذي حوّل الجحيم قصّة رومنطيقيّة نتعلّم منها أنّ الحياة رحلة، لا نستطيع أن نحرق مراحلها. والجحيم له مقلعه. والأرواح التائهة تُقتل خلال مُطاردتها غير المُجدية للسلام المجّاني. ورومانوس إيليا اعتادت السفر حول العالم، وتمكّنت من تخزين الهدايا الثقافيّة والفنيّة في كلّ مدينة سحرتها في قدرتها على تلاوة قصائد حسيّة "تُشرّح" جمال الأيام العاديّة. ورومانوس إيليا تتّكل على حدسها أثناء العمل. والتجهيز، بتركيباته المُتعددة يُحاكي قصيدة دانتي التي تنساب عبر الجحيم والمطهر والجنّة بما يُشبه الرقصة. والتركيب الفنّي يمتدّ على مساحة تزيد عن 50 متراً مُربّعاً في الفسحة العامة المجاورة لكنيسة مار الياس البهيّة. والقصيدة الملحميّة تسدل ستارها على "مينا الحصن" الزاخرة بطيف التاريخ المُتمرّد. والسفر كما تؤكّد رومانوس إيليا يُجبر الفنان على الانفتاح على كلّ الثقافات. وحدس هذه الفنانة الحساسة وعواطفها من العناصر التي تجعلها تتعامل مع عمل "على المقلب الآخر من الزمن"، كما مع كلّ المنحوتات، بأسلوب حميميّ يضيف الكثير من الحُلم على شخصيّة المُهندسة التي تسكن في داخلها. تركيبة مُنظّمة، و"كلّ شي لازم يكون إلو دور وسبب ليكون موجود بالعمل". والمهندسة في داخلها تدفعها إلى خلق الأعمال الفنيّة ذات الحجم الكبير. والكنيسة دعمت هذا المشروع الدائم. والمارّة الذي يناضلون ويُحاولون هدهدة خوفهم من الأيام وإيقاعها الغدّار، يشعرون بالفرح عندما يستقرّ النظر على هذا العمل الفنّي الضخم الملاصق لكنيسة مار الياس. كان من المفترض أن يكون الافتتاح في أواخر العام 2019. ولكن كان للقدر خططه. ولم يتمكّن انفجار العصر من تدمير العمل الذي انتظر أشهراً طويلة ليكون له حفل التدشين الذي يليق بعظمته. ورحلة الجحيم قصّة رومنطيقيّة تليق بهذا السيرك الذي هو الحياة.
 
 
 
 
(يتبع في أجزاء أخرى خلال الأيام المُقبلة)
 
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم