الخميس - 02 أيار 2024

إعلان

الثانية الخامسة لاسماعيل توبة: القفز فوق التقنيات السرديّة والتشبّث بالحركة

المصدر: "النهار"
نبيل مملوك
نبيل مملوك
الغلاف.
الغلاف.
A+ A-

في إحدى كتبه التي لامست سيرته الذاتيّة، راهن حنّا مينة على أن الرواية ستصبح ديوان العرب نظراً لما يحمله هذا الشكل الأدبي من عوالم وأفكار وبصمات وتجارب تمد بساطاً لامتناهياً من التعبير أمام محترفها أو هاويها، ولعلّ المحاولات التي تشهدها الرواية العربية المعاصرة تتجسد باللوحة الكتابية الفسيفسائيّة التي ينسجها السارد مهما كان مستواه بأدوات كالخيوط الملونة التي تبرز مروحة معارفه... ولعلّ اسماعيل توبة في روايته الأخيرة "الثانية الخامسة" الصادرة عن دار النّهضة العربيّة (طبعة أولى- 2020) هي واحدة من هذه المحاولات الملفتة حيث عمد توبة الى السير بواقعية ومعرفيّة عاليتين ليبني حبكته الروائيّة التي كادت أن تتصدع لو أن الكاتب قد أمعن في الوقوع في الفخاخ التقنيّة.

 

الشخصيات واستسلامها الواقعيّ للجريمة

يبدأ توبة روايته بـ"ما قبل الموت"، وهي فترة زمنيّة لم يعلن عنها صراحة لكن لا يصعب استنتاجها حين يتوسع المتلقّي بالقراءة ، ويمكن القول أنها نقطة تسجّل لصاحب "الليل الأخير" لأنه بذلك قد كسر الرتابة والمتعارف عليه والثابت، وانساق مع التحوّل ونسج التحوّل النصّيّ "أحدهم يحاول أن يهزّ جسدي، لكن يده الصغيرة لا تستطيع انتشالي" (ص 9). هذه الحادثة أو الحدث المباغت من دون تقديمات قادنا نحو العودة إلى الأصل، أصل الشخصية من خلال استنتاج القارىء أن ما قدّمته الأسطر القليلة سينتج عنه أسطراً كثيرة.

فندى الضابطة في إحدى الأجهزة الأمنّية، ظهرت في بادىء الأمر على أنها الشخصية المضطربة الضائعة التي فاتنا الكثير لمعرفة أصل مشكلتها وهذا ما يبرر التصوير المفاجىء، إغواء القارىء للعودة الى الأصل "تأمّلت هذا الصبيّ الذي لم أعرف من أين أتى، ولم أحاول عصر ذاكرتي" (ص 12). هذه الصورة المضطربة والمشهد الهشّ للمرأة سرعان ما انقض عليها الكاتب ليكشف الجانب الصلب من ندى والحق أنّ اختيار الكاتب بطلته لتكون ضابطة في إحدى الأجهزة الأمنية والمكلفة بالوصول إلى لغز مقتل نجوى سركيس ومحاولة انتحار حميد ما هو إلّا فكرة واضحة تبناها الكاتب وهي تمكين المرأة وتعزيز دورها المجتمعيّ والأمني "كيف تمنحني قضيّة كهذه؟ ألا تعلم أني أصاب بحالات فقدان الذاكرة عند الصدمات؟" (ص 50(.

"أعترف أنها تضحية كبيرة أن تستلمي هذه القضيّة" (ص 50)، وخصوصاً أن الشخصيات الأخرى- الثانوية والرئيسية- قد شكلت بدورها عاملاً مساعداً ومعاكساً، فاستسلام طليقها ونجلها للقدر والموت دفعاها إلى الاستسلام أمام الجريمة، وبالتالي استنزفت ندى كل مساحتها للتعبير عن الحزن والانكسار لتكون بعدها أمام حميد الذي أرغم على أن يكون مجرماً فقرّر التخلي عن نفسه "أردت أن ألتحق بها، أن أعود إلى الحياة بجوارها، لكنك جئت وماذا فعلتِ" (ص 77). الثابت بين الشخصيات بالإضافة إى أنّ كل منها كان بالنسبة للآخر عاملاً مساعداً ومعاكساً في آن، فحميد كان محفزّاً على نهضة ندى وفي آن واحد محبطاً لها نظراً لتكاثر بقع الدم أمامها بعد موت نجلها الغامض.

إذن الشخصيات استسلمت الى الجريمة التي نجح توبة في طرح بشكل مغاير بعيد من الكلاسيكيّة فضلاً عن أنه ساق قرائه إلى التعرف على كل شخصية من خلال أدوات سرديّة ساعدته وخذلته في مقلب آخر.

حقل سرديّ ملغوم

لم يكن أمام الكاتب إلا المغامرة فبعد تجربته الكلاسيكيّة "اللي الأخير"، ونعني بالكلاسيكية من ناحية الجوهر لا الشكل فقط، والّتي اتسمت بالجنوح نحو الطرح المعياري لجريمة كنّا نعرف أنها ستحصل حتماً، حدثت نقطة التحول في "الثانية الخامسة" من خلال إضفاء الواقعية والاسترسال المحدود في طرحها وظهر ذلك خلال مناجاة ندى أولاً ومن بشكل أدق من خلال توظيف تقنيّة التصوير في خدمة إظهار المشهد "عائلة زوجة القاتل م.س. تتبرأ من ابنتها..." (ص 101)، "حظرت الولايات المتحدة الأمريكية تصدير منتجاتها الى إسرائيل" (ص 21) كان الغرض من استخدام هذه البورتريهات جعل المشهد واضحاً يغوي مخيّلة المتلقّي، لكن ما أربك توبة في السرد كاد أن يقطعه عنه لولا صلابة المضمون: أوّلاً- من خلال تقنية الصوت الروائيّ، باعتماد توبة على صوت ندى الروائي قابلة تكلم السارد بالنيابة عن عزت أو حميد، مما جعلنا أمام تخلخل في العملية السردية ولو بشكل طفيف، خاصة وأنّنا نحتاج إلى تعدّد الأصوات الروائية في نص يحمل لغزاً وينضوي تحت النمط البوليسي.

من ناحية ثانية، قدّم توبة بطلته على أنها ضابطة في إحدى الأجهزة الأمنيّة لكنه لم ينتبه إلى ثغرة ينبغي له توضيحها، كيف لشخص ملتحق بالسلك الأمني أن يستخدم وسائل التواصل الإجتماعي والحديث بصورة واضحة مع المشتبه بهم أو مع الشهود بعيداً من المكاتب الرسميّة؟ "حاولت الاتصال بالسيد رائد لكن لا فيس بوك لديه، فبحثت عنكِ" (ص 92).

وعلى الرغم من توظيف الحوار لخدمة السرد وتفسير الحدث الذي قبله والتقديم للحدث الذي يليه، (أي يلي الحوار)، إلّا أن تقنيّة الوصف كانت حاضرة لتعزيز الحركة في الرواية من خلال استخدام الأفعال الماضية التي كانت بصيغة الحاضر لتقديم بعض العبارات "أخذت نفساً عميقاً، وكتبت... " (ص 93 )، "ردت ندى بصوتٍ كخدش مخالب القطة على الزجاج" (ص 97)، "لهث باشمئزاز" (ص 118).

كان على الكاتب أن يتجنب الإطناب من خلال حصر الصوت الروائي بشخصية واحدة والتناوب على السرد معها الأمر الذي دفعه إلى التخلي عن بعض التشويق والإثارة والرعب الذي يرافق أي جريمة...

 

العُقد الاجتماعيّة والنهاية المغلقة

كان على المتلقي أن يصل في طبيعة الحال إلى الحقيقة، خصوصاً وأنّ أدوات التحري حاضرة. لكن أن يصل إلى العقد لا سيّما الاجتماعية منها، فهذا ما يميّز هذه الرواية، فنادرة الشخصية المساندة كانت معاكسة ومناهضة لجهود ندى المعطوبة نفسيّاً وعضويّاً، "قتلتِ عائلتي وتقتليني الآن لأني كنت سعيدة" (ص 131) قد يؤخذ في بادىء الأمر على اسماعيل توبة أنه سطّح الجريمة و أبرزها سرديّاً "على أهون سبب"، لكن الغيرة لم تعد مجرد ظاهرة بل كادت أن تتحول إلى قيمة، خاصّة في مجتمعات تعاني من فقدان الرفاهية كالمجتمع اللبناني مثلاً، وإن أردنا ان نغوص أكثر فأكثر فإن الغيرة معبّر عنها بشكل آخر قرآنيّا "وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ" [الفلق:5]، والذي انسحب على حميد المذنب بغير إرادته، خاصة بعد أن تكشّف أن أخت ماريا هي القاتلة ولو لم يكن الحسد السبب بل الانتقام من حميد الضرير قلبا وخلُقاً.

قدّم اسماعيل توبة فإذن نصه الروائي على أنه جزء من جرائم متلاحقة كان الثابت فيها الواقع الذي لم يتمكن من الهرب منه لا زامنياً ولا مكانياً ولا حتى خيالاً. ليترك النهاية مغلقة وكلاسيكية تنضج بالفناء... وكأنه قاصص كل الشخصيات المتألمة بالموت فقط لأنها طلبت الراحة واليقين.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم