الأحد - 28 نيسان 2024

إعلان

ذاكرة هافانا لعبد الحليم حمّود: "بين النوستالجيا والمغامرات غير المكتملة"

المصدر: "النهار"
نبيل مملوك
نبيل مملوك
عبد الحليم حمّود وكتابه ذاكرة هافانا.
عبد الحليم حمّود وكتابه ذاكرة هافانا.
A+ A-
يحافظ عبد الحليم حمّود في روايته "ذاكرة هافانا" الصادرة عن دار زمكان (طبعة أولى 2023 ) على الحنين للمناخ اليساري المتجسد في معظم رواياته لا سيّما وهم الأنا.

وقد تكشّف على التمسك العقائدي الواعي من خلال الحبكة التي بنتها غزل خطّاب إبنة اليساري القديم عبد الهادي خطّاب منطلقة بذلك ومن خلال فكّ ارتباطات شخصيّة نحو عالم الوثائق والأسرار التي تجعلها تتعثّر بالمفاجآت نتيجة موت شخصيّة شاعريّة هامّة " سليمان الريّس" الأمر الذي يجعلنا أمام تحوّل ذاتيّ تلقائيّ من امرأة جامدة على سكّة الانفصال Detachement  إلى "كائن " مغامر يبحث عن الحركة ينتظر الألغاز الصعبة....

فكيف استطاع حمّود أن يقدّم مغامراته؟ ولمَ تركها ناقصة تفتقد إلى اللغز الأصعب؟ إلى أي حدّ يؤثّر فعل التذكر وارتطامه بالأفعال الحاضرة ؟

الحركة والشخصيّة المسيّرة

حملت الشخصيّة الأساس "غزل خطّاب " عاتق المغامرة والسير في دهاليز الذاكرة الجماعيّة، فالإنفصال عن خالد لغاية أنويّة طبقيّة (بسبب تخليّه عن طموحه الأكاديميّ لقاء تحمّل مسؤوليّة مهنيّة أسريّة) أظهر لدى الشخصيّة القوّة والعدوانيّة المترجمتين من خلال الإنفصال ومغادرة المكان المغلق (الكافيتريا) والانطلاق نحو عالم آخر مفتوح ولكنّه مجهول، من خلال هذا التوظيف التنقي للوحدات السرديّة، استطاع عبد الحليم حمّود أن يحافظ على الحسّ الحركيّ في الرواية من خلال تأزيم الشخصيّة وما اختياره للشخصيّة الأساس المؤنّثة إلاّ دليل على معرفته بأن الرواية تحتاج الى عنصر عاطفيّ وافصاح قلق عن الرغبة بالهروب ...ربّما نحو مغامرة جديدة.

لكن رغم كل هذا الحرص إلّا أن حمّود وقع في فخّ المشهد، فتوظيف تقنتي المشهد والوقفة خصوصًا في الحوارات القليلة بين غزل ورالف العشيق الطارئ فضلاً عن الوقفة نتيجة الذهول والدهشة بُعيد اعتراف أم غزل بقتل أشخاص أبرياء خلال تنفيذ عمليّة...كان ضروريًّا لكنه افتقد الى مبدأ إكمال المغامرة والغوص أكثر في التشويق والتمادي في تعقيد الألغاز، فاللغز طرح عبر وثائق ورثتها غزل بشكل مبدئي بعيد وفاة شخصيّة شعريّة مؤثّرة وهو طرح كلاسيكي ممهد لأي مغامرة أو أي لغز يحضّ السخصيات على حلّه من جهة، ويثير رغبة التلقّي لدى القارئ من جهة ثانية...فخرجت المغامرة عبر خطوط يتوقعها المتلقي أو يقترب من توقّعها.

الثابت في ما يخصّ الشخصيّة أن صاحب رواية "أسمر" لم يبالغ في منح غزل مساحتها للمناجاة أو المونولوج (الحوار الداخلي) فتجنب بذلك الوقوع في نفق السرد اليومي بالإضافة الى تركيزه على صناعة المشهد النفسي العام الخاص بالجماعة والمتمثل بالترميز السياسي والمجتمعي الذي تبلور مذ كشف عن التنظيم اليساري الداعي لأخذ الحق بالعنف والقّوة.
 
الترميز السياسي والذاكرة العاطفيّة

تقدّمت صورة الترميز أو الرمز السياسي على صورة التوثيق أو إعادة كتابة التاريخ السياسي لحقبة الاحتلال الإسرائيلي فابتكار اسم المنظمة الثوروية التي وظّف المنتمون إليها جهودهم السريّة لطرد الاحتلال وتنفيذ الأعمال الوطنيّة تعيدنا بالذاكرة إلى العديد من الفصائل اليساريّة والحركات القوميّة والوطنيّة التي اشتهرت بعمليات الخطف والثأر بوجه العدوان... هذا الترميز أفلت حمّود من قبضة التأطير السياسي أو التلميح الخاص لأي فئة على حساب فئة أخرى، ما أبعده عن الجدل واحتمال النفور لدى المتلقي فضلاً عن تمكينه من الجنوح أكثر نحو إكمال اللوحة المبتكرة مصحوبة بتمرير عدّة معلومات بغية انعاش الذاكرة: "اليابانيون اليسارييون وعمليّاتهم في لبنان، تهريب السلاح إلى أوروبا من قبل المناضل وديع حدّاد ، إقدام الياس خوري على تجميع تفاصيل مجموعة محمود درويش الأخيرة "لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي". هذه الذاكرة العاطفية الجماعيّة المصحوبة بتفاصيل يفتقدها زمن غزل خطّاب وامتنع الأب عن سردها بذريعة الخصوصيّة والسريّة، خلقت الرغبة لدى الشخصيّة الأساس في التساؤل وأظهرت فتور "ميم " التي تمثل الجيل الحالي غير المبالي بالأرشيف والتنقيب عمّا مضى، ما يضعنا أمام غرامافون أو فونوغراف يعيد على مسامعنا المقارنة القديمة الجديدة بين جيل أخذته الأوراق والحركة والصناعة وجيل أخذه التطور والذكاء الصناعي والهرب من رقعته المغلقة كونها فرضت عليه كما حصل مع ميم التي ابتعدت عن سليمان الريس والدها مهنيًا وثقافيًّا حتّى دخول "غزل " الى مكتبتها"...هذا المشهد المقارن أعطى الكاتب القدرة على توليد إيقاع روائي معنوي عاطفي متمثل بحث الذاكرة الجماعيّة على التماهي مع النص من جهة وعلى إعطاء اتساع الهوة بين الجيل السابق والجيل الحالي حيّزاً من الإهتمام...

فأتى الترميز لصالح الكاتب... وبعث المتلقّي نحو الفضاء الأقرب له...

لم تكن ذاكرة هافانا مجرّد إعادة لتاريخ أو بحث عن مغامرات مفقود، وإن تناولنا لجانبين منها فقط لا يعني أبدًا غياب جوانب أخرى مثل دور المرأة المركزي في العصر الحديث وعلاقتها بالزمن الفائت أو الحالة النفسيّة لدى الرجل ما بعد الصدمة العاطفية أو التخبط بين جيل الأبوة والبنوة...بل كانت نصًّا يتراوح بين الاستنزاف الأخير لزمن لن يعاد وتقديم ما يحتاجه المتلقي من هدوء سرديّ وإن كان عبر مغامرات صار يعرف ملامحها تمامًا.
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم