الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

محمود درويش: ليحرّر لنا أحدٌ الأرضَ نحرّر له الشعرَ من التزاماته الوطنية

المصدر: "النهار"
الكتابة والحوار: أسعد الجبوري
Bookmark
محمود درويش: ليحرّر لنا أحدٌ الأرضَ نحرّر له الشعرَ من التزاماته الوطنية
محمود درويش: ليحرّر لنا أحدٌ الأرضَ نحرّر له الشعرَ من التزاماته الوطنية
A+ A-
في الذكرى العاشرة لرحيل الشاعر الفلسطيني الكبير #محمود_درويش، نعيد نشر هذا المقال للشاعر أسعد الجبوري، كنوع من التحية لمَن حمل الحبّ للوطن والإنسانية في الضمير والكلمة.قيل لنا إن محمود درويش يسكن في ما وراء تلال الزئبق المنتشرة على طول الخط الأخضر. ولم يعثر عليه أحدٌ من صحبه القدامى. قيل لنا إنه يتكتم على محل إقامته في السموات، مذ بدأ بمراجعة قصائده وتصحيحها من جديد. ثم قيل أيضاً، إنه يأخذ دروساً في علوم تفكيك الغرائز على سطوح أبراج خاصة باليوغا، تقع في ما وراء حقول الأسلاف المنشورة في الضواحي الخلفية من مناطق التيه الأعظم. مع هذا وذاك، لم تدم عمليات البحث عنه غير ساعات. بعدها وصلنا إلى القصد، مثلما وصل هو من قبل إلى القصيدة صاخباً بدرجة عالية من الريح الصارخة من أيامه الأولى "سجل أنا عربي". كان الشاعر محمود درويش، مطلوباً للحوار عن الشعر والموت والخطابية والصفصاف السياسي والخطوط الحمر والقفص الذهني والمنافي المكررة هجرةً ومهاجرين وموتاً وقتلى وتعذيباً ومعوقين لم تسلم حتى أحلامهم الصغيرة من مغادرة تلك التوابيت التي أُعدّت لها مسبقاً. عندما وجدناه في حديقة الفراشات والأشباح، جالساً على كرسي أمام فنان مستغرق برسمه، رأيناه جسداً بديناً إلى حد ما. فلقد نال بحبوحة من الصحة. فيما اختفت نظارته الطبية عن عينيه، ليظهر له حاجبان أشبه بسعفتين وقع عليها فعل التشذيب للتو. بينما كان رأسه معتمراً قبعةً من قبعات مشاهدي سباق الخيل التي عادة ما تظهر في مهرجان أسكوت السنوي لسباق الخيل قرب قلعة وندسور للملكة البريطانية. ما إن تفحصنا الشاعر جيداً وعن كثب، حتى رأيناه مثبتاً ذلك السيجار الكوبي بين أصابع يده اليمنى، بينما تأنقت إلى جانبه من اليسار، كأسٌ مترعة بنبيذ أحمر مع حبات من الفستق السوداني. لم نتحدث معه مباشرة. تقدمنا خطوة وخطوتين، إلى أن وقفنا خلف الرسام. استطلعنا العمل الفني للرسام الذي كان منغمساً به بلذة واضحة. ولم ننتظر طويلاً، فما إن انتهى الرجل من الرسم ومعالجة ذلك البورتريه على برنامج الفوتو شوب، حتى ظهرت للعيان صورة مليئة بجموع من المستمعين في احتفال ما، وهم في حال من الهياج أمام الشاعر اعترفنا بأن الفنان نجح بجعل البورتريه لوحة تستدعي التفكير، بعدما دمج الشخصي بالعام.لوحة لمنصور الهبر.* هل هي استعادة الرغبة من جديد، ليشتبك الشاعر بجمهوره، كما تكرسها الصورة الآن؟- ذلك حلم سبق أن تحقق على الأرض، ولا مانع من أن يتكرر بين طبقات السموات التي نحن بين صفحاتها.* هل لأنك شاعر مشغوف بالخطاب، أم لا تريد أن تكون وحيداً في القصيدة، فتستدعي جمهوراً يخفف عنك وطأة الوحشة؟- لا يمكن لشاعر أن يدخل في مجرى الشعر من دون بشر. هذا ليس اعتقاداً، بل هو أمر قائم على جدلية الصوت والصدى كقانون ربحي، يستفيد منه الطرفان، ليدخل كل منهما من ثقب المعنى إلى الرغبة التي تنتظره في أعماق النفس.* إذا كنت تعني بأن ثمة لذةً تُنجز لكل طرفٍ، فما جني القصيدة؟ ألا تصبح قرباناً سيئاً لتلك العلاقة القائمة على الصوت والصدى، في غياب قوى اللغة الجمالية التي عادة ما تستغني عنها قصائد الخطابة لتربح التصفيق فقط على سبيل المثل؟- ومن قال بأن تعطيل ظل القصيدة – الجمهور هو الشيء الذي يراهن عليه الشاعر. الفلسفة والبلاغة والمجاز والتأويل والمعاني العميقة، قد تقدم نصاً بارعاً، لكنها لا توقظ الشعوب المصنوعة في الأصل من الصدى العميق لصوت القهر والرماد والدمع والأنين.* عندما كتبت الشعر للمرة الأولى، هل اعتبرت ذلك انتصاراً لك أم للغة؟ - شعرت بأن ذلك الانتصار العفوي البريء لم يكن لي ولا للغة، بقدر ما كان لتربة الشعر التي وجدتها تحتل جل مساحات جسدي.* وكيف كانت سقايتك لتلك التربة؟ - لم أفكر آنذاك في الطرق التي يمكنني بها سقاية القصائد، لأن الينابيع التي كانت مخبأة في دواخلي، كانت تفعل ذلك بشكل أوتوماتيكي. بعبارة أدق، كان زمن الشعر الداخلي هو الذي أخذ على عاتقته تلك المهمة، من دون أن يورطني بعمل من ذلك النوع.* وهل تعتبر عملاً مكملاً للعمليات الإبداعية، ورطةً أو توريطاً؟!- ليس بالشكل الذي تتحدث أنت عنه. فما قصدته أنا، أن تربتي الشعرية كانت خصبة، وربما أية زيادة في السقاية، ستتحول إلى طوفان يدمرني ويدمر القصيدة.* ثمة من يعتبر التدمير جزءاً من عملية البناء الشعري. إعادة خلق للغة...- لا. أبداً. التدمير في العملية الشعرية، سواء الخاص بأنظمة الشعر وقواعده، أو ذلك الذي يدمر من أجل التحديث في المعنى، إنما يقوض حقيقة كون الشعر خادماً للأهداف التي نكتب من أجلها.* كيف تفسر لنا ذلك؟- كل عمل يجرؤ الشاعر على فعله ضد القوانين التي تؤسس للشعر أنظمته وترعى حياته، يعني في واقع الأمر تدميراً للأهداف التي يقوم الشعر عليها حياتياً. الدادائيون فعلوا ذلك. ثم جاءت السوريالية لتكمل التدمير، لتحل الفوضى بديلاً منه.* ألا تؤمن بضرورة تحرير الشعر من الأهداف القصدية مثلاً؟- لا استطيع الرد بالإيجاب.* هل لأن الشعر الفلسطيني ولد في أقفاص المقاصد السياسية العسكرية، ولا يستطيع مغادرة تلك الالتزامات التي وجد نفسه أسيراً لها في ذلك القفص الكبير؟- ليحرر لنا أحدٌ الأرض، لنحرر لك الشعر من التزاماته الوطنية.* ولكن ألا يمكن الشعر أن يطور من لغته وهو حبيس تلك الأهداف السياسية التي تنال من قوة الشعر وبلاغته؟- أنا فعلت ذلك أولاً، فيما تركت الآخرين يغرقون في سياسة النص وتسييسه إلى درجة السبات. لقد لعبت بتلك الأهداف الصلبة، وحولتها إلى نشاط جمالي داخل كل نص.* ربما بسبب الجمهور؟- ماذا تعني؟* أعني إنك في البدايات، كنت خزاناً خطابياً للشعر المقاوم، ومن ثم أدخلت نفسك في تحولات جديدة بطريقة عالية الجودة، من دون أن تحرق المراكب مع العوالم الإيقاعية.- ولماذا نهتم بحرق تلك المراكب مثلاً، إذا كان الباطن الفلسطيني يلتهب بتلك الإيقاعات، أو يعيش على وقعها المهلك والمدمر يومياً. الإيقاع ليس ذنباً، لكنه لا يزال وليد الحروب المتكررة على الأرض، ويرتبط بقوة الآلة العسكرية التي تحتل بلادي.* وهل وجدت أن الخيال حبل غسيل واهٍ لا يعول عليه تعليق قصيدة. لأنه شيء غير الإيقاعي، وبالتالي هو لا يضيف إلى النص الشعري أية طاقات جمالية أو تعبيرية متفوقة مثلاً؟!- أنا في قرارة نفسي متمرن حيوي على حبال الخيال، لكنني لا...
ادعم الصحافة المستقلة
اشترك في خدمة Premium من "النهار"
ب 6$ فقط
(هذا المقال مخصّص لمشتركي خدمة بريميوم)
إشترك الأن
هل أنت مشترك؟ تسجيل الدخول
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم