الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

اسلحة صامتة لحروب هادئة

المصدر: النهار
سامي الجبوري
اسلحة صامتة لحروب هادئة
اسلحة صامتة لحروب هادئة
A+ A-


لا نهتم، فالأخبار جيدة وسيئة في الوقت نفسه، إذ نبدأ حياتنا محاطين بمن يهتمون بنا، نفتح أعيننا لنجد وجهين مبتسمين لنا باهتمام. يشاهدنا المحيطون بنا ليسرعوا ويمسحوها على رؤوسنا بحنان. وينطلق التصفيق لنا بحرارة عندما يلحظون أولى خطواتنا نحو الحياة، أو نسقط لنحاول الوقوف من جديد، كما نستقبل باقات الشكر عندما نتمكن أول مرة من كتابة اسمنا. هذا حالنا في سنوات طفولتنا البريئة. لذلك يبقى حلمنا متشبثاً في الميل للعب بمرح الطفولة... في العودة ولو في الخيال.

يبذل المحيطون بنا جهداً كبيراً في توفير مستلزمات عيشنا، ويضعوننا في السرير ويحكون لنا القصص قبل النوم (جدتي: بنات نعش، والسماء). وكان كل شيء أسطورة تصاغ على مقاس عقولنا الوردية والأحلام...

بعد ذلك نصبح بالغين لنصطدم بالحقيقة المروعة بأننا نعيش في عالم يغرق في اللامبالاة وعدم الاهتمام بكل ما نفكر أو نفعل. قد نكون في مرحلة المتوسطة أو الإعدادية عندما تصدمنا هذه الحقيقة. أو ربما نكون في الجامعة أو نجلس في البيت عندما يخطر ببالنا كم نحن لا شيء في الصورة الكلية للبشرية وللوجود. لا أحد نمر به في الشارع يعرف أي شيء عنا بل لا يهتم بنا. يتجنبوننا على الأرصفة ويتعاملون معنا كمجرد حواجز تقف على حدود حريتهم. لا أحد سيمسح على رؤوسنا أو يبتسم في وجوهنا. عدنا صغاراً، لكن هذه المرة أمام أنفسنا، أمام الأبراج العاجية التي بنتها الحضارة. قد نموت ولن يلاحظ أحد أننا ولدنا حتى، أو أننا كنا نعيش.

تظهر اللوحة التي رسمها "بروغل" مشهد اللحظات الأخيرة في حياة إيكاروس. والعبرة فيها هي أن مصير "إيكاروس" الذي يغرق، ليس محوراً رئيسياً في اللوحة رغم أنه عنوانها. عليك أن تدقق كثيراً في اللوحة حتى تلحظ يد "إيكاروس" وهو ينازع الغرق، إلا أن اللوحة تسلط الضوء على الفلاح الذي يحرث الحقل، وعلى راعي الغنم. في الخلفية نرى مدينة وسفناً وميناء. يبدو أن لا أحد يلحظ حال إيكاروس، الأخبار جيدة وسيئة في نفس الوقت: من ناحية، قد لا يلحظ أحد أننا نوجد، ومن ناحية أخرى، فهم لن يلاحظوا أيضاً عندما نسكب الشاي أو عندما ننسى أننا كبرنا ونتصرف كالصغار.

هنا نرى الجانب الإيجابي من حقيقتنا التراجيدية... علينا أن نقبل التحرر الضمني في حقيقة أننا مهملون وسط هذا الزخم الهائل من المشاعر والعواطف والانفعالات.. منسيون وسط أشياء العالم ومشاغل الحياة. ومن ثم، نقبل بشجاعة أكبر على هذه المواقف حيث تكون بعض الأخطاء والسخافة أمراً طبيعياً. قد نفشل، ولكننا نقبل بثقة أن الفشل مقدمة للنجاح، وهو الشيء الذي لن يلاحظه أو يهتم به أحد أيضاً.

وداعا لحلم الطفولة وأهلاً بالحلم الأميركي وخيالات الليبرالية التي تظهر وبكل سفور أسس عدم المساواة وآثام مجتمع المستوطنات الأوروبية المحتلة، التي قضت على حضارة سكان القارة الأصليين، ودمرت ثقافتهم ولغاتهم وطرق معيشتهم، واختطفت أبناء أفريقيا وأخذتهم عبيداً أرقّاء مسخّرين لزراعة الأرض الأميركية أو العالم المجنون الذي يحاول وبكل وحشية حصر السلطة بيد القلة اللامنتمين من الأثرياء. بعد ذلك لا ننسى سيناريو المفاهيم الذي شغل الرأي العام والحكومات والمجتمعات والمؤسسات الدولية كنوع من استراتيجية جديدة اسمها الإلهاء، وظواهر وسياسات بشعة وبرامج اقتصادية اقطاعية قذرة همها التهالك والمنفعة... برزت في إدارات نكسون وروزفلت وكلينتون وأوباما وصولاً إلى ترامب، والتي جعلت من أجهزة الإعلام ومؤسسات الدعاية والفن محركات تابعة همها استهداف المواطن المستهلك لتلك النزعات اللاإنسانية، والعمل على خلق مواطن غير واعٍ لحقوقه وأحقيته في العيش الكريم والأمن... مطابخ ما يسمى بالأمن العالمي وصناعة الإذعان.

فهناك معايير مزدوجة في السياسة العالمية، تدّعي أن الحرية للجميع رغم أنها تتحالف مع المنظمات والدول القمعية بما نتج عنه انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.

وهذا حصل بفضل قوة مؤسسات الاعلام التي تخدم إلى حد كبير الكهانة المأجورة للحكومة الأميركية وشركاتها العابرة للقارات وحدود أخرى لم نسمع بها أصلاً.

مسار عالمي مخيف تنتهجه السياسة العالمية المرتبطة بالعنف والإرهاب وهدر الكرامة وقتل الحرية. ومع هذه الوحشية التي شهدتها مجتمعاتنا البشرية ما زال الوعي بها غائباً ومغيباً الى يومنا هذا. لهذا نتمنى أن نسهم في توجيه الأنظار إلى حيل السياسة الناعمة وهي تزج الشعوب كالقطيع في أزمات لا تحد وآخرها كورونا.

نؤكد أيضاً أن الإنسان ليس كائنا غريزياً مطواعاً وقابلاً للتشكيل كما تريده الدول والأحزاب والحكومات... هناك طبيعة بشرية أساسية لا تستطيع الدولة والأنظمة التسلطية محوها والقضاء عليها. الحرية والكرامة من خواص هذه الطبيعة البشرية التي يشترك بها كل الناس.

وبلغتي التي منحني إياها الخالق فطرياً أرفض الإقامة الجبرية في ظل حجر جائحة النفاق العالمي وكورونا، لكن عقلي يخبرني أنها هي ذات الموقف الإيديولوجي الذي تعيشه البشرية منذ قرون وهي مقيدة ومكبلة بسلاسل العبودية لتلك المرجعيات السياسية التي تتلون أحياناً بالوان دينية وأخرى إنسانية.

صحيح أن الحرية في أيامها الأولى مرهقة ومليئة بالمصاعب؛ ولكن الحصول على الحرية هو الطريق الوحيد لممارستها وشم رائحة العيش الكريم، فالتحرر من الخوف هو أولى خطوات الاستقلال الحقيقية.

في عصر اللاعقلانية والسفسطائية والغموض والظلام والنسبية المفرطة، يأتي الضمير ليحاسب الإنسان على ما فرط إمكانيات منحت له دون حدود وشروط.

نعم، زمن كورونا أيقظ جموعاً هائلة من سباتها واعتيادها على السلطة التقليدية والإقامة الجبرية خلف أسوار العبودية الفكرية والإيديولوجية. إذن، آن لنا ننظر في مشاكل الحرية بشكل تجريدي، وأن نعود باهتمام وانتباه جديين إلى أهمية أن تحيا البشرية. ستكون هذه العودة مناسبة وطبيعية، طالما أخذنا في الاعتبار أن الإنسان لم يولد فقط ليتأمل، بل ليعمل ويغير.

من ناحية اخرى نجد بأن المجتمع المدني ما هو إلا مؤامرة من قبل الأثرياء للحفاظ على ما سرقوه بنفاق معقلن. هذه السفسطائية التي أعطت قيوداً جديدة للضعفاء وسلطات جديدة للأقوياء، ودمرت الحرية الإنسانية والطبيعية على حد سواء، وأرست العبودية واللامساواة، وحولت اغتصاب الشرعية إلى حق نهائي، ولمصلحة قلة من المتنفذين وأصحاب المصالح، أجبرت كامل الجنس البشري على الخدمة والبؤس والشقاء.

خاصة أن السياسيين واصحاب الإيديولوجيات الهدامة يبحثون عن طرق لطمس حقيقة أن جوهر الإنسان حريته... إنهم يعزون للإنسان ميلاً طبيعياً للطاعة، دون أن يفكروا أن الأمر ذاته ينطبق على الحرية وكذلك على البراءة والفضيلة: يشعر الإنسان بقيمة هذه الأشياء طالما يستمتع بها بنفسه وينسى مذاقها حالما يفقدها. من هنا تأتي الحروب القومية والمعارك والجرائم والانتقام التي تهز الطبيعة وتصدم العقل، وكل هذه الافتراضات المسبقة الفظيعة التي تجعل شرف إسالة الدم البشري من بين الفضائل. يتعلم أرقى الرجال أن واجبهم قتل إخوتهم البشر، مع الزمن يقوم الناس بارتكاب مجازر بالآلاف دون أن يعرفوا السبب.

تلك هي آليات التلاعب بالشعوب، والتي اعتمدتها دوائر النفوذ في العالم للتحكم والسيطرة على الجمهور بغية التلاعب بالمجتمع وتوجيه سلوكه والسيطرة على أفعاله وتفكيره... عموماً الخطط مروعة، تتمثل في تحويل انتباه الرأي العام عن المشاكل الهامة والتغييرات التي تقررها النخب السياسية والاقتصادية، ويتم ذلك عبر وابل متواصل من الإعلام المظلل المشتت والمعلومات التافهة لغرض منع العامة من الاهتمام بالمعارف وميادين العلم... كل ذلك من خلال تصدير كم كبير من التشتيت والمعلومات التافهة.

إن تشتيت الفكر والوعي بعيداً عن المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية الحقيقية، وجعل هذه الاهتمامات موجهة نحو مواضيع ليست ذات أهمية حقيقية... كل ذلك تحت عنوان" اجعل الشعب منشغلاً، منشغلاً، منشغلاً" دون أن يكون له أي وقت للتفكير. اشغله حتى يعود للضيعة مع بقية الحيوانات. مثال ذلك في روما القديمة كانت عروض القتال والمصارعة بين المحاربين غرضها إشغال الناس عن المشاكل الداخلية للإمبراطورية. واليوم الاهتمام بكرة القدم وحياة الفنانين وبرامج تلفزيونية وألعاب إلكترونية ممسوخة، كلها تستخدم كسياسة إلهاء أولاً ثم تصعيد العنصرية وتعميم الرداءة بين الشعوب وأخيراً هدر الكرامة. والغاية من ذلك انتزاع بعض ردود الفعل من الجمهور، بحيث يندفع الجمهور طالباً لحل يرضيه. مثال ذلك، السماح بانتشار العنف في المدن، أو تنظيم هجمات انتحارية وأعمال عنف، حتى تصبح الاولوية لقوانين الأمن ورجاله على حساب الحرية. أو خلق أزمة اقتصادية يصبح الخروج منها مشروطا بقبول الحد الادنى من الحقوق، ويتم تقديم تلك الحلول المبرمجة مسبقاً، ومن ثمة، قبولها على أنها شر لا بد منه.

ولكي يتم قبول إجراء غير مقبول، يكفي أن يتم تطبيقه بصفة تدريجية، مثل أطياف اللون الواحد من الفاتح إلى الغامق، على فترة تدوم عشر سنوات. وقد تم اعتماد هذه الطريقة لفرض الظروف الاجتماعية والاقتصادية الجديدة بين الثمانينات والتسعينات من القرن السابق: بطالة شاملة، هشاشة، مرونة، تعاقد خارجي ورواتب لا تضمن العيش الكريم، وهي تغييرات كانت ستؤدي إلى ثورة لو تم تطبيقها دفعة واحدة.



الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم