الأحد - 05 أيار 2024

إعلان

ملاك مكّي في "كأنني أسابق صخرة": عبثيّة الحياة المسجونة في حكايات الجدّات

المصدر: "النهار"
شربل أبي منصور
A+ A-

تبدو الصحافية اللبنانية ملاك مكّي في باكورتها الشعريّة "كأنني أسابق صخرة" (دار النهضة العربية – بيروت) متأخرةً دوماً عن الحياة بخطوة، وكأنّها تخشى من ركوب قطارها (الحياة) مفضّلةً البقاء في محطّة الانتظار. وانتظارها هنا، ليس انتظاراً لوصول غودو، بل هو الغاية والحياة بعينها إذ تقول: "وكأن الانتظار حياة، وحين نتوقف عن الانتظار نموت". فالنتيجة ليست هدفاً بل محاولة وجود ما/من يدعونا ويحضّنا على الانتظار، فوِفق تعبيرها "تتبدّل رائحة الأشخاص حين ينتظرون، وكأن الانتظار يبدّل المواسم فوق الأجساد، يعيد ترطيبها، ينتزع الخلايا الميتة، ويُحيي الخلايا الجديدة".

موقف مكّي هنا من الحياة ليس اعتباطياً بل هو قناعة ترسّخت لديها عن عبثية الحياة وسيزيفيّتها عبّرت عنها بالقول "كأنني أسابق صخرة/لا أعرفُ معنى الدهشة/لا الثبات يدهشني ولا الحركة". هذان الشكّ وعدم اليقين تتبدى ملامحهما في حرف "كأنّ" الذي يتكرر في نصوص عدة، والذي يترك باب الحياة والوجود مفتوحاً على الاحتمالات والتأويل والما بين بين. وكأنّ ثمة خطوة ناقصة تحول دون اكتمال اللقاء "في العادة، أتأخر عن الموعد/تنصرفُ اللحظة قبل مجيئي/فلا نلتقي"، وهذا النقصان يترك النفس في حال من الخيبة والحزن وصولاً إلى اليأس والضياع فيصير الغياب سبيلاً للحضور ويمسي الاحتراق وسيلة للإشعاع "حزينة كفراشة أضاعت زهرتَها/فالتصقت بالضوء".

يُحوّم على نصوص ملاك شيء من الازدواجية والتقلّب هما انعكاس لما يَعتملُ النفس من صراع وتنازع وتصدّع مردّها هويّة مأزومة وعالمٌ معطوب. هذا الصراع أدى إلى تشظّي الأنا إلى ثلاث أنوات/أصوات: الأنا الحالمة التي ارتسم العالمُ ورديّاً في مخيّلتها منذ الصغر، والتي يتراجع حضورها تباعاً مع دخول معترك الحياة وتفتّح الوعي وطغيان الواقع بفجاجته على المُتخيّل والمأمول. غير أن هذه الأنا لا تختفي تماماً بل تصير في الخلفيّة من الصورة، ولا تخرج من الظل إلى الضوء إلا عندما تستدعيها مكّي سواء في التفاصيل الصغيرة والحميمة للحياة اليومية كقولها "تتوقّفُ الحرب/في كلّ مرة تترك جدتي خطواتها المبلّلة بالماء على الأرض بسلام"، أو في محاكاة المخيّلة حيث حضور النور واستنشاق جُرعات الأمل "مع النسمات، يعزف الشرشف قطعةً موسيقيةً على طرف السرير/ثمّ يعزف الهواء القطعة ذاتها على جسدي"، كذا "غداً لن تشرق الشمس/أقنعتُها برقّة الغفوة إلى ما بعد الفجر/غداً لن يجدَ العالم الشمس/فالشمسُ غافية.. بقربي، بقربي أنا".

الأنا العاشقة التي تنشد الحب سبيلَ خلاص والذي به تكون الحياة أجمل وأبسط " كان يمكن للحياة أن تكون أبسط/ كان يمكن لها أن تكون أكثر فرحاً/ فبدل أن أحاول أن ألتقط حبات المطر في يوم غائم ممطر/ كان يمكن لي أن أقبّلك". الحبّ الذي يخفف من وطأة الوقت وثقله "يجعل الحب الوقت ملموساً، جميلاً. فنتوقف عن الهروب منه، نمسك به ونقترب من أكثر...".

الأنا العاقلة التي لا تكفّ عن التفكّر في الحياة وغائيتها كقطار لا يتوقّف فيعتريها الوهن والعجز "جميع قطارات العالم تتوقّف عند نقطة الوصول/في رأسي قطارٌ لا يتوقف"، والحلّ إما بالتخلّص من الرأس "جميلٌ أن أكون فكرةً/ يزرعني أحد في رأسه/ وأتخلّص من رأسي"، وإمّا بالصراخ كتابةً "الكتابة صرخة الأصابع من ألم الوخز".

هذا التواشج ما بين هذه الأنَوات والتداخل في الأصوات ما هما إلا نتيجة طبيعية للاضطراب والحيرة والضياع التي تمرُّ بها الشخصية قبل أن تتشكّل صورتها ويتفتّح وعيها. وفي خضم هذه المعركة لترسّم معالم كينونتها، أدركت مكّي في الأخير عبثية المشهد ولُجّة أمواجه فانكفأت إلى ذاتها مختارةً عيش الحياة ببساطتها ويومياتها وتفاصيلها الصغيرة حيث الحبّ والألوان والضوء والخيال والأحلام والابتسامات.

الحياة في نظر ملاك هي الشعور بالأمان: بيت دافئ وأحبّة وجدّة تروي الحكايات.

[email protected]


Twitter: @abimansourc

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم