السبت - 04 أيار 2024

إعلان

برلين ٦٨ – "الوريثات": مهمّشات السينما هنّ بطلات فيلم رقيق من الباراغواي!

المصدر: "النهار"
برلين ٦٨ – "الوريثات": مهمّشات السينما هنّ بطلات فيلم رقيق من الباراغواي!
برلين ٦٨ – "الوريثات": مهمّشات السينما هنّ بطلات فيلم رقيق من الباراغواي!
A+ A-

بعد مشاهدة "الوريثات"، وقفتُ وأصدقاء على رصيف المترو في طريق عودتنا إلى الفندق، نفكّر في الطريقة التي سنكتب بها جنسية المخرج مارسيلو مارتينيسّي باللغة العربية في حال فوزه بــ"الدبّ الذهب". أحدنا تمنى حتى، ممازحاً، الا يفوز لهذا السبب تحديداً، على الرغم من انه مقتنع بأهمية هذا المُنتَج البصري. فالمخرج الذي ينجز هنا فيلمه الأول هو من الباراغواي (أميركا اللاتينية)، أي انه باراغوياني، الا اذا كان… باراغوايي!

"الوريثات" (إنتاج الباراغواي، ألمانيا، أوروغواي، نروج، البرازيل، فرنسا) أول فيلم شاهدناه في إطار مسابقة مهرجان برلين الرسمية (١٥ - ٢٥ من الجاري) صباح الجمعة الفائت، وهتفت له قلوب معظم الذين استفتيتهم في لقائي وإياهم على أبواب الصالات. وفي قائمة النقّاد التي تنشرها مجلة "سكرين"، جاء الفيلم في المرتبة الثالثة من حيث العلامات الممنوحة له. الا ان المدوّن السويسري باسكال غافييه كتب عنه انه "قبيح ونكرة". هو حرٌ في رأيه، ولكن ليته لم يكتف بهذا القدر من الايجاز وشرح لنا سبب نبذه له.

مع "الوريثات"، وقّع مارتينيسّي الفائز بجائزة أفضل فيلم قصير في مهرجان البندقية عن "الصوت المفقود" (٢٠١٦)، فيلماً مينيمالياً محكماً، يطفح بالمشاعر الرقيقة وبالمسكوت عنه، مقدّماً رؤية عميقة جداً لحالات إنسانية في مجتمع معقّد لا نعرف عنه الكثير. ينطلق الفيلم من واقع تشيلا وتشيكيتا، امرأتين في الستينيات من العمر. ندخل إلى حميميتهما بلا مقدمات، فالأبواب غير مغلقة في هذا الفيلم، يكفي ان تضرب برجلك على أحد الأبواب لتصبح في الداخل. الا ان الدخول لا يكفي وليس شرطاً وحيداً لفهم ما يجري. فهناك كمية كبيرة من الكلام الموحى والمبطن والبنود الثقافية التي لا تُلتقط معانيها بتلك السهولة.



أهمية "الوريثات" انه يجد ضالته في مرحلة عمرية من حياة نساء ليس لهن أي وجود لافت على الشاشة. حضورهن شبه معدوم في ظلّ اهتمام كتّاب السيناريو بالشابات، إستجابةً لمنطق العرض والطلب. كنتيجة مباشرة لهذا التهميش، أصبح اهتمام السينما بالمرأة في عقدها السابع حدثاً في ذاته، فكيف اذا كان الفيلم الذي نتحدث عنه بهذه الجودة الإخراجية وهذه الحساسية.

اذاً، سنتعرف الى تشيلا وتشيكيتا (آنا برون ومارغاريتا إيرون). واحدة نقيضة الأخرى. تشيكيتا ثرثارة، أكثر انفتاحاً من غيرها على الآخرين. تدبر أمور تشيلا البيتوتية، تقنعها مثلاً بضرورة المشاركة في سهرة تقيمها احدى الصديقات. يقيم الثنائي (يمتنع الفيلم عن تحديد العلاقة بينهما ويتركها ملتبسة) في منزل بورجوازي قديم، لكن الضائقة الاقتصادية التي تعانيها السيدتان ستجبرهما على بيع بعض الأثاث رغم مكانته المعنوية. لكن الأشياء تتعقد، فتدخل تشيكيتا السجن بسبب دين لم تسدده (هذا كله في بداية الفيلم) لتصبح تشيلا وحيدة، كأنها عارية وسط الطبيعة. فجأةً، نراها تعمل سائقة سيارة أجرة، تقلّ نسوة من جيرانها، رغم انها لا تحمل إجازة سوق، إلى ان تلتقي آنجي (آنا إيفانوفا) التي تصغرها بسنوات، فتوقظ عندها رغبات اعتقدتها انطفأت إلى الأبد.

غياب تشيكيتا عن العشّ "الزوجي" يترك فراغاً لا يعوضه قدوم خادمة جديدة، ولكن يحمل تشيلا إلى احتمالات جديدة تجعلها تكتشف ذاتها وتختبر الحدود التي وقفت عندها طموحاتها وآمالها.



تشيلا هي نموذج المرأة التي تتحدر من البورجوازية الصغيرة والتي لم تعد تملك أي صلة بالمجتمع، لا بل بالعالم الخارجي أو بكلّ ما يتخطى حدود عتبة منزلها. سلسلة المفارقات التي ستغير حياتها، تعيدها إلى الواقع الذي غابت عنه طويلاً. في زيارتها المتكررة للسجن، تكتشف الطبقة العاملة وكلّ ما "يميزها" عن هؤلاء البشر الذين تتشارك معهم هوية واحدة وبلادا واحدة وواقعا واحدا. هناك أيضاً في الفيلم غمزات إلى طبيعة المجتمع الباراغوياني الذي يعاني هيمنة الرجل. ورغم انه لا وجود لأي رجل في الفيلم، الا في أدوار عابرة جداً (بائع، الخ)، فمارتينيسّي يحمل النسوة على الراحات من دون ان يكون عدائياً حيال الجنس الآخر.

لا يُمكن توقع أحداث كبيرة في "الوريثات"، فهو ينتمي إلى صنف سينمائي يولي الأهمية لدراسة كاراكتيرات بعض فئات المجتمع الذي لا يعلق المخرج عليه الا من خلال اظهار سلوك هذه الفئات ورغباتها. عن المشاعر الدفينة، وسلوك النخبة، والاذعان لظروف الحياة في سن متقدمة، يقدّم "الوريثات" نصّاً سينمائياً يمضي بنا إلى المجهول، ولا يبرر أياً من خياراته. اللقطة التي يفتتح بها الفيلم هي مدخل لفهم المسافة التي ستُنظر منها إلى الأشياء: لقطة من باب مشقوق. سيتقدم الفيلم، ولكن هذا الباب لن يُفتَح الا جزئياً، تاركاً المجال للمخرج ليصوّر نصف حقائق.

بهدف التماهي مع الواقع، اختار مارتينيسّي ممثلات لا يملكن باعاً طويلاً في التمثيل، لا بل بعضهن يقفن قبالة الكاميرا للمرة الأولى. يستمد الفيلم جماله من تراكم هذه العناصر وانصهارها، وكذلك من اللقاء بين امرأة تستعيد ثقتها بنفسها وهي في خريف عمرها من جانب، ومخرج يلملم حياتها المتناثرة بتفان وإخلاص من جانب آخر.






حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم