الثلاثاء - 07 أيار 2024

إعلان

"قطار الساعة 15:17 إلى بارس" لكلينت إيستوود: حكايات البطولة العادية

المصدر: "النهار"
"قطار الساعة 15:17 إلى بارس" لكلينت إيستوود: حكايات البطولة العادية
"قطار الساعة 15:17 إلى بارس" لكلينت إيستوود: حكايات البطولة العادية
A+ A-

هذا كله لقول حجم الاشكالية التي وقع فيها إيستوود مع هذا الفيلم الذي سيتعرض حتماً لسوء فهم وطعن من الذين لا يؤيدون بعضاً من مواقفه السياسية ويروّجون أفكاراً خاطئة عن أفلامه، وخصوصاً في العالم العربي. فهذا الزمن هو زمن الخلط السهل والاختزالات السريعة بين الأشياء. فيلم عن الفاشية يمكن بسهولة ان يصبح "فيلماً فاشياً" في نظر الذين يقدمون مقاربة سطحية للفنّ، وكذا بالنسبة إلى فيلم عن الذكورية أو العنصرية أو الايمان المتعصب (رأينا هذا مع "هاكسو ريدج” لميل غيبسون. أنصار هذه المدرسة في قراءة الأفلام، ليس لديهم أي مشكلة في التداخل الخطر بين الدال والمدلول. فيلم إيستوود أبسط ممّا قد نعتقده، مخرجه مخلص لحرفته وصنعته، ومتصالح مع أفكاره التي تتولد من أفكار أميركا معينة. سينماه تندرج في سياق سينما أميركية تطرح ما لديها بنحوٍ غير ملتوٍ، تجبه الأشياء أكثر من كونها تسعى إلى علاج. والسؤال الذي طرحه أحد النقّاد الفرنسيين هو: هل حذر "ورنر" من النقد والنقّاد مبرر؟  

يستعيد الفيلم حادثة قطار تاليس الآتي من أمستردام والمتجه إلى باريس، التي وقعت في ٢١ آب من العام ٢٠١٥. ماذا حدث يومذاك؟ صعد شاب مغربي الأصل من راديكاليي مولمبيك في بلجيكا إلى متن القطار عند توقفه في محطة بروكسيل. كان مددجاً بالأسلحة ويخطط لتصفية كلّ ركّاب القطار واحداً واحداً. الا ان مخططه أُحبط. فخمسة أشخاص تصدّوا له (أحدهم فضّل عدم الكشف عن هويته والبقاء في الظلّ)، بينهم ثلاثة سيّاح أميركيين في العشرينات من عمرهم، وهم أصدقاء منذ الطفولة.

طفولة هؤلاء الثلاثة هي ما يسرده ايستوود طوال ثلاثة أرباع الفيلم، مطعِّماً قصته هذه بلقطات سريعة وقفزات فلاش فوروورد من عملية احباط العملية الارهابية. الفيلم امتداد لفيلميه السابقين، حيث يسأل إيستوود عن معنى البطولة ومفهومها، في المجتمع الأميركي وفي الوجدان الأميركي وفي العقلية الأميركية التي ترى شياطين في كلّ مكان وتحاول الاضطلاع بدور الشرطي والمخلّص وصانع العدالة الآلهية. لكن إيستوود ينبش هذه المرة في إتجاه آخر، من دون ان يضمن له هذا النبش العثور على شيء يستحق العناء. يخربط إيستوود هنا مكانة البطل في السينما الأميركية، وخصوصاً مع استخدامه للأبطال الحقيقيين الذين أحبطوا العملية ونبذه فكرة اللجوء إلى ممثلين. فأسطورة البطولة هذه تطارد إيستوود منذ أمد، الا انها تعاظمت فباتت طاغية مع "قنّاص أميركي"، فيلم صور فيه "شيطان الرمادي" كريس كايل الذي قتل أكثر من ٢٥٥ عراقياً خلال الحرب من دون ان يرف له جفنٌ، وفق ما رواه في سيرته. هذا الهاجس بأساطير أميركية تواصل مع حادثة "سولي"العرضية التي لم تدم سوى ثوانٍ: حكاية الطيّار سولنبرغر الذي استطاع ان يهبط بطائرته بعد تضررها نتيجة دخول طيورٍ في المحرّك، على نهر هادسون من دون أن يتسبب ذلك بأي خسارة في الأرواح. في "سولي" ذروة التعبير عن السينما التي تقول تروما ما بعد ١١ أيلول، كأن سولي أراد تفادي الكارثة تلك بمفعول رجعي، لا لإنقاذ البشر. قصة سولنبرغر أمثولة عن أهمية اتخاذ القرار في اللحظات المصيرية والتحلي بحسّ المسؤولية (ما يفعله أبطال القطار هنا)، أي كلّ تلك الأمور التي تسخّفها أدوات السلطة خلال الجلسة القضائية. واللافت ان الأفلام الثلاثة تتحدث عن تجارب أبطال، ميزتهم هي حس الدقة.  

الا ان الفارق الكبير بين "سولي" و"١٥:١٧" هو ان الثاني يهتم بما حدث قبل تلك اللحظة المصيرية التي أُحبطت خلالها العملية، وليس بعدها، كما في حال "سولي". الأمر المشترك الثاني بين الفيلمين المذكورين هو ان الحدث الذي يصوّره لا يتجاوز الدقائق، لكنه كاف لبناء خطاب بالغ الدلالة انطلاقاً منه.

البطولة المطلقة لم تعد تروي عطش إيستوود، فقد آن أوآن النظر إلى شخصية البطل الأميركي من زاوية أخرى، وهو على مشارف التسعين من العمر. الكاوبوي الذي كانه في أفلام ليوني، وهاري القذر الذي كان يروّج لفكرة الدفاع الذاتي، وجد صدى جديداً لها في شخصيات من عمق الواقع المتوتر، كالقنّاص أو الطيّار أو الجندي المنقذ. إيستوود يختار هؤلاء الشباب الثلاثة، سبانسر ستون وإليك سكارلاتوس وانطوني سادلر كمادة لبحثه السينمائي حول العلاقة الجدلية بين الأسطرة والعادية. وعلى هذه العادية، يُبنى مجد أمة. هنا، يجازف مرة أخرى، كما حصل في المرتين السابقتين، ان يتداخل الدال بالمدلول. أهمية إيستوود انه يرى في هذا الميكانيزم أهلاً لثلاثة أفلام. يركّز على الأميركي بصراحة، من دون ان يدّعي أي محاولة فهم سطحية للعدو (الذي خصص له فيلماً كاملاً مع "رسائل إيو جيما")، أكان العراقي في "قناص أميركي" أو الارهابي المغربي هنا.  

فكرة إيستوود هنا هي الاهتمام بكلّ ما له علاقة بالتربية التي تضع في عقل الطفل فكرة البطولة. لذلك يعود إلى النشأة، مستعرضاً إياها بكلّ مشكلاتها وفرصها الضائعة ولحظات الوعي والادراك لمهمة يشعر سبانسر (أحد الثلاثة) إنه مكلّف بها من الله، وكأنه يوحي لنا بأن كلّ شيء كان مكتوباً في هذه الحادثة، ولم يكن الإنسان سوى الأداة أو المنفذ. دراسة النشأة التي تحتل الجزء الأكبر من الفيلم، تتوزع على ثلاث مراحل: المراهقة، بداية الدخول في الشباب، والاستعداد للسفر إلى أوروبا. أبطال الفيلم يختلف أحدهم عن الآخر، لكنهم يعشقون اللعب بالأسلحة، وصولاً إلى التحاق اثنين منهم بالجيش. هم أميركيون متوسطون حتى النخاع الشوكي، لديهم آراء عشوائية عن الشعوب الأخرى، بدائيون في تعاطيهم مع الأشياء، ويتماهى الفيلم كلياً مع وجهة نظرهم، وهنا خطأ إيستوود، اذ يصوّر كلّ شيء بلا أي مسافة، ليقع في فخ الوضوح التام، فيتولد اللبس خارج الفيلم من دون ان يستطيع اعطاء هذا اللبس للفيلم نفسه.

كلّ الفيلم هو عن التحضير للحظة التي ستدفع بثلاثة مجهولين إلى الشهرة، وهذه موضوعة أميركية بامتياز. حتى الرحلة إلى البندقية وأمستردام، تهيئ أرضية لهذا الخطاب الذي يوحد الله والفحلوة وصدام الثقافات. المشكلة ان الفيلم ليس سجالياً. ثم، أي تخلٍّ عن الأميركيين الثلاثة كأنه يضعك في صفّ الإرهابي. اذاً، حشر إيستوود نفسه في مكان غير منتج للأفكار الكبيرة. بهذا المعنى، يصبح الفيلم مسطحاً بعض الشيء، لا يحمل أي صراع وأي معضلة، يكتفي بذاته، لا يتأمل، يستعرض فحسب.

سينمائياً، هناك شيء إيستوودي واضح، في التقاط الحدث، في تعقب الشخصيات، في الاختزال الزمني واستعادة لحظات تمضي إلى كتب التاريخ. لكن أهم ما في هذا المجال، هو الخيار الجمالي لتصوير الحادثة، وهو خيار يستند إلى الكثير من البرودة والقسوة والواقعية، ولكن لا يدبّ ما يكفي من روح في الفيلم الذي يلجأ إلى تقطيع مقتصد لا يبالغ في استخدام الموارد السينمائية كثيراً، لخدمة فكرته: رواية عادية للبطولة في السينما تكاد تكون مخيّبة ولا تعني شيئاً البتة سوى للمعنيين المباشرين بها. المفارقة ان إيستوود لا يملك براعة يد الا عندما يُحشر في اطار بضع سنتيمترات (في القطار)، بعدما كانت له المساحات كلها وهو يتنقل من قارة إلى قارة، ومن بلد إلى بلد. يبقى هذا الحوار الجميل بين الواقع وتجسيده يتجلى بوضوح في مشهد احباط العملية الارهابية، الذي يتواصل مع الختام عندما يعلّق فرنسوا هولاند النياشين على صدور الجنود. هنا التداخل بين الواقع وتجسيده مذهل، ويمنح احساساً غريباً، وخصوصاً مع وجود هولاند حقيقي وآخر ممثل، وإقحام لقطات حقيقية لمسعفين وجنود، علماً ان الأبطال الثلاثة هم أنفسهم في نسختي الحقيقة. أياً يكن، نادراً ما تقترب السينما إلى هذا الحدّ من الواقع، وتتدخل في أحاسيس المُشاهد لمحاولة خلق نوع مختلف من التفاعل، وهذا يُحسب على إيستوود.  

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم