الثلاثاء - 07 أيار 2024

إعلان

سعادة أبناء الدانمارك المُقلقة حضرت في وقتها في ذلك النهار السوداويّ!

المصدر: "النهار"
هنادي الديري
هنادي الديري https://twitter.com/Hanadieldiri
سعادة أبناء الدانمارك المُقلقة حضرت في وقتها في ذلك النهار السوداويّ!
سعادة أبناء الدانمارك المُقلقة حضرت في وقتها في ذلك النهار السوداويّ!
A+ A-

في ذلك النهار الشتويّ العاصِف مطلع سنة 2017، كانت السماء مُزخرفة بهذا السواد الأقرب إلى ظُلمة الليل الأبدي وكنت أتجمّد من البرد. وليكتمل المَشهد التراجيديّ في طلّته، كانت الأسئلة الوجوديّة تُهيمن على كياني... وهذا الطقس الماطر الكئيب "يضطهدني" شخصيّاً، ويوجّه أصابع الإتهام نحوي... وهذه الأفكار الحزينة "تُلبسني حضورها" غير المُريح.

كان لا بُدّ من أن أهرب من المكتب بحثاً عن القليل من الهواء، وربما بحثاً عن إستراحة قصيرة من هذا الشعور الراعِب بالإختناق. أين هي السعادة التي نحتفظ بها عادةً للبدايات؟ هل هي في إكتشافنا أن الطرف الآخر الذي نخفي عنه تنهدات أحاسيسنا، يُبادلنا الإنفجار الداخلي الذي ينتظر إشارة ليخرج "إلى العلن"؟ هل هي في نهار صيفيّ نمضيه في تجميع الصدف؟ أم هي في "مزمزة" فنجان قهوة والإنغماس في "جلسة ثرثرة" مع بعض الصديقات؟



كيف نستطيع أن نسعد ونحن نعرف سلفاً أن الموت يرسم حول أيامنا طيف قامته المهيبة؟

إختبأتُ من كآبتي في إحدى المكتبات التي أزورها باستمرار في وسط بيروت بحثاً عن كُتب الأطفال الزاهية التي "أشذَب" من خلالها "أجنحة" السوداويّة التي تُسيطر عليّ أحياناً، وأعترف أنني لم أكن مُستعدّة للكتاب الذي إنتقل من الرفّ إلى يدي.

إستفزّني العنوان وجعلني أبتسم، إذ كان واضحاً أنه ينطوي على روح النكتة، ووجدتُ يدي تمتدّ إليه بمفردها وكأن صفحاته نادتها قائلة، "ولك يللا! طلعي شوي من حالك!"، على الرغم من كونه غير مُوجّه للأطفال (وتالياً ربما كان لا يُناسب مُخيلتي الزاهية وغير المنطقيّة).



The Year Of Living Danishly للكاتبة البريطانيّة هيلين راسل، دخل حياتي في ذلك النهار "النكد"، وأعترف أنني إكتشفتُ من خلاله أن السعادة مجانيّة ولا تحتاج إلى الكثير لـ"تشرّفنا" وتنوّر أيامنا، أقلّه، هكذا يزعم أبناء شعب الدانمارك الذين يُعتبرون أكثر الشعوب سعادةً، هم الذين يعيشون شتاء لا يرحم وظُلمة نادراً ما تُفارقهم طوال أشهر طويلة. فهم يتعلّمون باكراً فن الرضا والقناعة، ويتعلّمون إن الإحتفال باللحظة الهاربة (كل اللحظات) والتواصل مع الآخرين، من العناصِر التي تفتح الباب على مصراعيه للسعادة التي يعرفها قلائل ومع ذلك يمضي الإنسان أحياناً حياة كاملة بحثاً عن ظلّها العابِر.

وإحتفالهم الدائم بالأيام، وقدرتهم على تحقيق التوازن بين العمل والحياة الخاصة يُطلق عليه إسم Hygge (هوغاه). ويُمكن أن نُلخّص مفهوم الهوغاه بالـ"كنكنة الإحتفاليّة"! فأبناء الدانمارك لا يخشون الظلمة الخارجيّة ولا يسمحون لها بأن "تُعكّر" مزاجهم، بل يستغلّونها فرصة لإضاءة أكبر عدد مُمكن من الشموع في أرجاء المنزل على إعتبار أن الإنارة القويّة تُزعج النفوس ولا تُريحها. ووحدها الإنارة الخافتة ولم لا "الناعمة المَلمَس"، تجعل إبن الدانمارك يشعر بفرح لا شيء يُعادله.

إحتفال شعب الدانمارك بالحياة على الرغم من كونهم يدفعون ضرائب "راعبة" ويعيشون في بلد مُكلف، ويعرفون المعنى الحقيقيّ للبرد القارس (تشببه الكاتبة بالعيش داخل برّاد!)، دفع البريطانيّة، هيلين راسل إلى كتابة The Year Of Living Danishly، لأنها، وكما أكدّت لـ"النهار" في حديث معها عبر الإنترنت، إنتقلت للعيش في هذا البلد الغريب قبل أعوام قليلة مع زوجها، وشعرت بدايةً، بأنها تعيش في المرّيخ.



فهذه السعادة الدائمة "مُقلقة"، وهذا الشعب يعيش "ع رواق"، و"يمشي الهوينا" في أيامه، ولا يعمل لساعات طويلة جداً، ويولّي العلاقات الإنسانيّة الإهتمام الكليّ، ولا يهمّه أن "يستّف" منزله بالأثاث بل هو مُغرم بالمينيماليّة ويقتني التصاميم الراقية وإن كانت باهظة الثمن، وسعادته لا علاقة لها بممتلكاته الماديّة على إعتبار أن "كترة الغراض بتغبّب ع القلب!".

وغالباً ما تستمر الجلسة حول مائدة الطعام ساعات طويلة، ولا أحد يخاف من الكيلوغرامات الإضافيّة والجميع "مُعجب" بالمعجّنات والفطائر على أنواعها والحلويات التي تُخبز في المنزل، والكل يُساعد في المطبخ، ولا يضيّع إبن الدانمارك وقته في تقييم الناس إنطلاقاً من المناصب، والكل يعمل جاهداً ليثقّف نفسه، ولهذا السبب نجد أن ثقافة النجّار هي عينها ثقافة الوزير.

 ويرتدون الملابس الزاهية عندما يتشاطرون وجبة الطعام لتزويد الجلسة رونقها الخاص، ولا يُحاول أحد أن "يحكي فوق التاني" لأن سعادة إبن الدانمارك هي سعادة راقية، وهادئة. وهمّ الكل أن يساهموا على طريقتهم في تزويد اللقاء تناغماً جميلاً إعترافاً منهم بأن الذكريات هي كل ما يبقى أحياناً للإنسان، يعشقون التقاليد ويجدون فيها ملاذهم الذي يقيهم البرد الخارجي المُرعب.



ينظرون إلى الجانب الإيجابيّ للأمور، وخلال فترة عيد الميلاد يحتفلون بالطقوس طوال أسابيع طويلة ويُزيّنون المنازل بأشياء يجلبونها من الطبيعة، وأبناء هذا الشعب يثقون بالجميع، ويعشقون الغناء، ويبحثون عن "حياللا شي" للإحتفال، و"لمدّ السفرة"، يقرأون بهدوء بين "رشفة وأخرى" من القهوة أو الشاي الساخن عندما تعزف الطبيعة لحنها المجنون خارجاً، "يغلّون" بالبطانيّات الجميلة ويستمعون إلى الموسيقى التي توقظ الروح وتُسلّيها.

هي تفاصيل صغيرة ترى هذه الكاتبة المرحة التي إنتقلت إلى الدانمارك "على مضض" فإذا بها تقع في غرام هذا البلد الذي يتفنّن بالسعادة ويُتقنها، أنها محوريّة في حياة الإنسان ولكنه غالباً ما يغضّ الطرف عنها لانه ببساطة لم يتعلّمها صغيراً.

أبناء الدانمارك يترعرعون على مبدأ السعادة، والأهم أنهم يتعلّمون باكراً ان يُقدّروا الحياة لأنها هبة، وربما لهذا السبب هم لا يخشون فعلياً الموت، لانهم يعيشون جيداً إنطلاقاً من مبدأ: "هيك هيك هالدني محسوبة علينا".

تُعلّق راسيل قائلة، "أبناء هذا الشعب لا يقسون على أنفسهم ولا يقسون على غيرهم".

لتُنهي قائلة، "أعتقد أن موهبة أبناء الدانمارك تكمن في كونهم يحوّلون كل ما هو عاديّ إلى مناسبات إستثنائيّة". هل ننتقل للعيش في الدانمارك، إذاً؟

                                                                                                               [email protected]




حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم