الخميس - 02 أيار 2024

إعلان

رسالة إلى الصديق بشارة الأسمر: كيف تقبل أن تكون رئيساً لاتحاد ميؤوس منه؟

غسان صليبي
رسالة إلى الصديق بشارة الأسمر: كيف تقبل أن تكون رئيساً لاتحاد ميؤوس منه؟
رسالة إلى الصديق بشارة الأسمر: كيف تقبل أن تكون رئيساً لاتحاد ميؤوس منه؟
A+ A-

تحية نقابية. أكتب اليك، "إجر لورا وإجر لقدّام". أنت تعرف جيّدًا، انني منذ سنوات عديدة فقدت الأمل بالاتحاد العمّالي العام، وقد كتبت مرارًا أن هذا الاتحاد لم يعد ديموقراطيًّا ولا مستقلاًّ، وهو بتركيبته الحالية، عاجز عن الدفاع عن حقوق العمّال والموظفين. كما استنتجت، بعد تحليل مستفيض، ان لا أمل في التغيير من داخل الاتحاد وبمبادرة منه.


وقد دعوتُ بالفعل، وبالتعاون مع بعض الاصدقاء والرفاق، إلى تكوين حركة نقابيّة بديلة ديموقراطيّة ومستقلة. وساهمت في مبادرات واشتركت في لقاءات من أجل مناقشة كيفيّة تحقيق هذا الهدف. ولم أعد أهتم بكل ما يصدر عن الاتحاد العمّالي العام أو بتحرّكاته.
ترؤّسك اليوم للاتحاد العمّالي العام "أزعجني" بعض الشيء. فنحن أصدقاء منذ زمن، ونقابتك منتسبة الى الاتحاد الدولي لنقابات الخدمات العامة التي كانت ممثلة في المنطقة العربية لأكثر من عشرين سنة. خلال هذه الفترة التقينا كثيرًا، في الاجتماعات، والمؤتمرات والدورات التدريبيّة، ورفعنا لواء الحريات النقابيّة، وتدارسنا شروط ديموقراطيّة النقابات واستقلاليتها، وأفضل الاستراتيجيات والتكتيكات لتحقيق المطالب العمّالية. وفي عز التشنجات المذهبيّة في البلد، رفعنا شعار "بالشغل حد بعضنا وبرا كمان"، وقمنا بحملة واسعة حول الموضوع. كما شرَّحنا الخلل الحاصل في الاتحاد العمّالي العام، وقد توسّعت أنا في وصف هذا الخلل وتحليله في كتابين، "في الاتحاد كوة" و"رأي ولا موقف".
اليوم تفاجئني وتصبح رئيسًا للاتحاد العمّالي العام! هل كنت تسايرني من قبل؟ هل ذهب كلامنا السابق هراءً؟ أم ترى على عكسي إمكاناً ما لتغيير الواقع، فقبلت التحدّي؟ في تصريحاتك الأولى بعد انتخابك، أكّدت ان المرحلة السابقة انتهت وأن الاتحاد سيقف مجدّدًا "مع العاملين والمسحوقين وذوي الدخل المحدود". لكنك قلت أيضًا ان الاتحاد سيتحوّل الى "حكومة ظل تواكب كل القضايا المطروحة". لعل الأمر التبس عليك في الجلسة الانتخابية للمكتب التنفيذي، حيث رأيت نفسك بين نقابيين يمثلون أحزاب السلطة الموجودين حاليًّا في الحكومة. فظننت انك فعلاً في حكومة... ولو سميتها حكومة ظل! لكنّك بالطبع لا تحتاج الى درس منّي، لتعرف ان الحركة النقابيّة هي قوة ضغط على الحكومة، وهذا هو المفهوم النقابي الذي يجب استعادته وإحياؤه.
العزيز بشارة، انتقل الاتحاد العمّالي العام خلال عقدين من الزمن من موقع الى آخر يكاد يكون نقيضه: من جامع للمواطنين من مختلف المذاهب والطوائف، في وجه الحرب والازمة الإقتصاديّة، الى طرف في الصراع السياسي الذي اتخذ طابعًا مذهبيًّا؛ من جامع لمختلف هيئات المجتمع المدني الأساسيّة، في ما سمّي في حينه بالمؤتمر النقابي الوطني العام، الى منظمة منعزلة تخلّت عنها الهيئات النقابيّة الأخرى بما فيها هيئة التنسيق النقابيّة؛ من قوّة ضاغطة فعّالة تمكّنت خلال أصعب الظروف، من فرض تصحيحات للأجور مقبولة نسبيًّا، ولا سيما في فترات التضخّم الصاعد (1974-1984) والتضخّم الفالت (1984-1994)، الى تنظيم عاجز عن تحقيق أي تصحيح نظامي للأجور رغم ارتفاع نسبة التضخّم الى 121% من 1996 الى 2012.
ولعل اختلال ميزان العدالة الاجتماعية في لبنان في السنوات الأخيرة، هو أفضل مؤشر على عجز الاتحاد العمّالي العام: تراجعت حصة الأجور من الناتج المحلي من 55% في فترة ما قبل الحرب الى حوالى 20%؛ نصف الأجراء يتقاضون أجرًا دون 400 دولار؛ حوالى نصف العاملين لا يستفيدون من تأمين صحّي؛ نسبة اللبنانيين ما دون خط الفقر تصل الى 34.5% (إحصاءات 2015)؛ 48% من الثروة الخاصة تتركّز بين أيدي 0.3% من السكان؛ 1% فقط من المودعين يستحوذون على 70% من الودائع المصرفيّة.
العزيز بشارة، تعدّدت الأسباب وراء العجز النقابي. الخبراء الاقتصاديون يحصون أربعة عوامل إقتصاديّة. صغر المؤسسات وتشتتها يصعّبان التنظيم والتضامن النقابي ويضعان النقابيين تحت رحمة أصحاب العمل؛ الإقتصاد الريعي يقلّص قدرة الأجراء على التأثير في علاقة الأجور والأرباح؛ إتّساع القطاع الرسمي يحتّم جهداً مضاعفاً من أجل تنظيم عمّاله؛ هجرة اليد العاملة الجامعيّة والماهرة التي كان يمكن ان تؤثّر إيجابّا في فاعليّة العمل النقابي.
هذه عوامل خارجيّة معوقة. لكن ماذا عن العوامل الداخليّة؟ تأمّل معي هذه الصورة القاتمة، التي لم تعد ترعبك ربما، بسبب تعايشك معها لسنوات طويلة: لا يمثّل الإتّحاد العام أكثر من 5% من إجمالي عدد الأجراء الذين يحق لهم الإنتساب الى النقابات؛ يتكوّن الإتّحاد العام من 50 إتّحادًا و"الحبل على الجرّار"؛ يفتقر تنظيم الإتّحاد العام الى مبدأين ديموقراطيين أساسيين: إنتخاب الهيئات الدنيا للهيئات العليا (أي إنتخاب مجلس المندوبين للمجلس التنفيذي)، والتمثيل النسبي للإتّحادات الخمسين في هيئات الإتّحاد العام. فالتمثيل يتّم اليوم على أساس مندوبين إثنين لكل إتّحاد في المجلس التنفيذي بغض النظر عن عدد المنتسبين، مما أدّى الى إعطاء ثقل للإتّحادات الصغيرة التي جرى تأسيسها لأغراض حزبيّة، على حساب الإتّحادات القطاعيّة الكبيرة كاتّحادي المصالح المستقلة وإتّحاد المصارف وغيرها؛ 58% من الإتّحادات الخمسين جرى تأسيسها بعد الحرب في وقت كان يسجّل فيه تراجع القاعدة الانتاجيّة للإقتصاد اللبناني وتراجع نسبة العمل المأجور الى إجمالي القوى العاملة على المستوى الوطني. أي ان إنشاء النقابات جاء لاغراض سياسيّة وليست إجتماعيّة - إقتصاديّة؛ 54% من الإتّحادات هي ذات صبغة مذهبيّة وتابعة للاحزاب الأساسيّة في السلطة؛ لا يجبي الإتّحاد العام أي إشتراكات من الإتّحادات الأعضاء بل يعتمد حصريًّا في موارده على المساعدات السنوية للدولة.
العزيز بشارة، كيف تريد لهذا الإتّحاد ذي التمثيل العمّالي الضعيف والفاقد ديموقراطيّته واستقلاليّته والتابع لاحزاب السلطة وخصوصاً المذهبيّة منها، أن يدافع عن حقوق العمّال والموظفين؟
لن تردّد بالطبع، كما كان يفعل الرئيس السابق للإتّحاد العام، غسان غصن، "أن الإتّحاد هو على صورة البلد"، أي ان لا شيء يمكن القيام به! على الأرجح ستستلهم رئيس نقابتك السابق، ورئيس الإتّحاد العام الأسبق، أنطوان بشارة، وتبادر لخلق ديناميّة تغييريّة من ضمن رؤية بعيدة المدى.
المناضل النقابي لا يقبل بالأمر الواقع، بل يعمل على تغييره. فسبب وجود المناضل النقابي انه يرفض القبول بالظلم والاستغلال واللامساواة، ويعمل من أجل إرساء العدالة الإجتماعيّة في مجتمعه. لا شكّ ان امامك صعوبات جمّة إن أنت قرّرت أن تبدّل بالأوضاع القائمة. وأنت تحتاج بالطبع الى دعم من داخل الإتّحاد العمّالي العام ومن خارجه.
في أحد اللقاءات النقابيّة، توجّهت الى قيادي نقابي صديق في "حزب الله"، بالقول، ان حزبه عرف بجدارة ان يحمي الأرض من الاحتلال، لكنني أخشى انه يحسن وبجدارة أيضًا حماية الهريان في الإتّحاد العمّالي العام! القيادي النقابي اكتفى بالرد أنه "يتّفق معي بتوصيف الواقع، أمّا الحلول فشيء آخر". منذ أسبوعين، اتّصل بي النقابي نفسه ليسألني ما إذا كنت متحمّسًا للعمل كخبير في مشروع يتوخى تحديث المرسوم 7993 المتعلّق بتنظيم النقابات العمّالية، وهو ما اطالب به منذ ثلاثة عقود وقد قدّمت بشأنه الكثير من الاقتراحات. فوجئت كثيرًا بالطلب وقلت له انني أشكره ليس فقط لأنه إختارني، بل لأنه اختار شخصًا يعرف تمامًا موقفه النقدي من الإتّحاد العمّالي العام. كان سارتر يقول انك عندما تختار احدهم وتطرح عليه سؤالاً ما، فكأنك تختار في الوقت نفسه الجواب الذي تريد سماعه. هل أُطبّق قول سارتر على مبادرة القيادي من "حزب الله"، واعتبر ان هناك نيّة جدّية لتطوير الأمور نحو الأفضل، نظرًا لنفوذ "حزب الله" داخل تركيبة الإتّحاد العام (مع العلم أن النفوذ الأكبر "عدديًّا" هو لحركة أمل)؟ معروف أن الإتّحاد العام تحوّل في السنوات الأخيرة الى مجرّد أداة في الصراع السياسي في البلد ولا سيما بين 8 و14 آذار. فهل قرّر "حزب الله" وحليفه الأقرب العزوف عن إقحام الإتّحاد العام في هذه المهمة، في ظل عهد وحكومة لهما فيها النفوذ الأكبر؟ أم أن هذا التحوّل هو نتيجة اقتناع راسخ، بأن المجتمع المقاوم حقًّا، هو مجتمع حر بمؤسّساته ومنظّماته المدنيّة، وبأنه لا يمكنك ان تكون مقاومًا على الحدود إذا كنت ذليلاً منقادًا داخلها؟
كلّها أسئلة لا أستطيع الإجابة عنها. لكنّها بالتأكيد تدغدغ شعورًا عميقًا لديَّ، برؤية منظّمة خدمتها كخبير لمدة عشر سنين، تعود لتلعب دورًا رائدًا في الدفاع عن العمّال والموظفين والفقراء في لبنان.
العزيز بشارة، أنت في الأساس طبيب أسنان، وتعرف أكثر من غيرك كيفيّة التعامل مع منطق "السوسة". كما أنك الأدرى بما إذا كان "العصب" لا يزال حيًّا أو جرى قطعه. في جميع الأحوال ستكتشف بالممارسة، إذا كان في الإمكان إصلاح ما يجب إصلاحه، أو انه لا بدّ من اقتلاعه وزرع ما هو أصلح مكانه.
أتمنى لك النجاح في مهمتك الجديدة، وأدعوك منذ الآن الى لقاء حول فنجان قهوة بعد سنة على التمام من انتخابك، أي في 15 آذار 2018. وسيكون على جدول أعمالنا نقطة وحيدة: هل تبقى رئيسًا أو تستقيل؟ فمدّة سنة ستكون كافية لتلمس باليد إمكان التغيير. فإمّا تكمّل ما بدأته وأكون الى جانبك ولو من خارج المؤسّسة، وإما تستقيل كما فعل غنيم الزغبي، النقابي الشريف، عندما تبيّن له ان من المستحيل ان يلعب الإتّحاد العمّالي العام في تركيبته الحالية، دور المدافع عن حقوق العمّال والموظفين. وفي هذه الحال أيضًا سنكون معًا، إذا شئت، من أجل تكوين حركة نقابيّة بديلة ديموقراطيّة ومستقلّة.


(باحث وخبير نقابي مستقل)

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم