الأربعاء - 08 أيار 2024

إعلان

الأرقام في باريس ليست دومًا بريئة

المصدر: باريس - "النهار"
كاتيا الطويل
الأرقام في باريس ليست دومًا بريئة
الأرقام في باريس ليست دومًا بريئة
A+ A-

يولد المرء في لبنان وينشأ فيه ولا يتنبّه يومًا إلى نعمة الأرقام التي تهدهده. يولد في أحضان لبنان الدافئة ولا يكاد يصل إلى باريس حتّى يتعلّق بالأرقام وببورصتها. يتابعها صباح مساء، يترصّدها، يتصفّحها، يستيقظ على وهجها ونورها وأمل تغيّرها.


الجميع عمومًا على علم بطباع الباريسيّين الحادّة؛ على علم بحال المترو؛ على علمٍ حتّى بصعوبة التفاهم مع مدينة عظيمة تلتهم زوّارها، إنّما ما لا يتوقّعه المرء هو قسوة الأرقام.
الأرقام المفردة هي أقسى ما يمكن أن يعرفه إنسان. فالأرقام من 1 إلى 9 لا تعني سوى البرد الفتّاك الذي يُجبرك على ارتداء كلّ ما تقع عليه عيناك قبل الخروج. من 1 إلى 9، تسع درجات من ازرقاق الشفتين وتخدّر اليدين وعدم الإحساس بالقدم اليُسرى في انتظار اكتشاف حال القدم اليُمنى.
وإن سبق هذه الأرقام خطّ أفقيّ صغير (-)، إن أصبحت درجات البرد تحت الصفر (أقول درجات البرد لا درجات الحرارة)، عندها تخرج من مكان إقامتكَ إلى ما يُعرَف بالحرب الباردة الثانية.
يصل المرء إلى باريس على خبر يتصدّر الصحف: "موجة برد قارسة تجتاح باريس بقوّة استثنائيّة تحدث للمرّة الأولى منذ سنوات". قد طالما اعتدتَ استعمال عبارة "البرد القارس" في مواضيع الإنشاء. لكنّ باريس تعلّمك حقيقة أن يقرس البرد. تعلّم باريس أهلها وساكنيها جوهر هذه العبارة. برد باريس يقرّس عظامك الواحدة تلوَ الأخرى. يسكن الزمهرير قلبك، ويخبّط أبوابه بلا تردّد، وبلا شفقة.
يتوقّع لك الناس عمومًا أن تشعر بالوحدة الكبيرة في أوّل أيّام غربتك. يقولون لك قد تحزن، قد تبكي. وبالفعل، تبكي. تجد نفسك تبكي، وكثيرًا حتّى. إنّما أنت تبكي يا صديقي ليس لشعورٍ بالغربة، بل لعدم إحساسك بأيّ عضو من أعضائك. تبكي أيّها المسكين عندما يصفعك الهواء الشماليّ كلّما وصلتَ إلى تقاطع طرق.
يبقى أمر واحد عصيًّا على فهمك. فبينما تكون ملتحفًا بنصف الملابس التي أحضرتها معك من لبنان، بينما ترتدي قفّازاتك الواحد منها فوق الآخر، تجد نفسك أمام رجل في منتصف أربعيناته يمارس رياضة الركض في الشارع. الرجل الأشقر نفسه كلّ صباح، بعضلاته الخارقة ووجه الجافّ وشورته الذي لا يتعدّى السنتيمترات العشرين. يركض بشورته الصغير الذي يزيد من قرسات البرد على جبهتك. وكلّما وقع نظرك عليه شعرتَ بالبرد عنك وعنه، ولا إراديًّا، تجد نفسك تزيد من حدّة بكائك عند الإشارة الحمراء.
تصل إلى باريس وأنت في أوج الحماسة لاكتشاف أرض بالزاك وفلوبير وهوغو وبودلير. تصل إلى باريس بحثًا عن بيسكويت ماري أنطوانيت، ولا تكتشفف سوى أنّ الصفر أجمل الأرقام، والعشرة حلم بعيد المنال.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم