الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

"تسالونيك ٥٧": الفرنسية وجارموش والجمهور الحاضر دائماً

المصدر: "النهار"
"تسالونيك ٥٧": الفرنسية وجارموش والجمهور الحاضر دائماً
"تسالونيك ٥٧": الفرنسية وجارموش والجمهور الحاضر دائماً
A+ A-

دورة جديدة تحمل الرقم ٥٧ من مهرجان تسالونيك السينمائي الدولي بدأت الخميس الفائت، أي قبل يوم من الموعد المعتاد الذي كان ينطلق فيه. هذه الدورة الأولى منذ ست سنوات تجري من دون مدير المهرجان، السينيفيلي الكبير ديمتري أيبيديس، الذي استقال نتيجة متغيرات طرأت على السياسة الثقافية في اليونان (كان يعمل مسؤولاً عن قسم "آفاق جديدة" منذ ١٩٩٢)، فانتقلت الشعلة إلى الفرنسية أليز جالادو، وهي ابنة فيليب جالادو المدير الأسبق لمهرجان "القارات الثلاث" (نانت)، التي باتت تترأس الموعد السينمائي الأهم في بلاد الاغريق.


بادرة نادرة في دولة حيث رئاسة المؤسسات الثقافية العامة تُسند دائماً إلى مواطنين من البلد. إلا ان جالادو ليست طارئة على الواقع اليوناني، فهي شغلت منصب الملحقة السينمائية في السفارة الفرنسية في اثينا. هذه المولودة في نانت، عشقت تسالونيك حدّ أنها قررت الاستقرار فيها، خلافاً لكلّ المديرين السابقين الذين كانوا يختارون العاصمة مقراً لهم نظراً لقربها من كلّ الدوائر الرسمية. إلى جالادو المديرة العامة، هناك أيضاً أوريستيس أندرياداكيس، المدير الفني. الأخير ناقد سينمائي أسسّ مهرجان أثينا قبل ٢١ عاماً، وله تجربة واسعة في تقديم البرامج التلفزيونية.



اليز جالادو في صالة "أوليمبيون".


تسالونيك حدثٌ بالغ الأهمية في المدينة، حتى إذا لم تصل شعبيته إلى سائق التاكسي الذي ليس له هم سوى الاسترزاق في الزمن اليوناني الصعب. ما إن أمسكت الإدارة الجديدة بزمام الأمور، حتى بدأت تظهر التغييرات التي طالت التفاصيل. كلّ وافد حديثاً يحاول أن يضع شيئاً من شخصيته، وإن حصل ذلك لمجرد التغيير. فتوزيع الجوائز مثلاً الذي كان يجري يوم السبت عادةً انتقل إلى الأحد (يترأس لجنة التحكيم المخرج الايراني الأميركي أمير نادري)، والموتيفات التي كانت تزيّن الملصق وكاتالوغ المهرجان تبدّلت وأخذت لونَي الأسود والأبيض. قبل عرض كلّ فيلم، ثمة شريط طريف يقترح التحلي بأفكار جديدة. بيد ان بيرة "فيشر" لا تزال احد الرعاة الرسميين للمهرجان، وهي صلة الوصل بين العهدين. الصالات، في طبيعة الحال، وعددها ست، ممتلئة في معظم العروض، المسائية خاصة. تسالونيك مدينة "عييشة" يبلغ عدد سكانها نحو ٣٠٠ ألف نفر، أهلها يحبون الكيف والسهر؛ يكفي التجوّل أثناء الويك أند في وسط المدينة حيث مئات المطاعم والمقاهي الليلية. والسينما، كأي مدينة أوروبية، من مستلزمات هذا العيش، وخصوصاً ان المهرجان يخاطب غريزة الفضول لديهم، ويأتي دورة بعد أخرى بآخر الانتاجات المهمة التي عُرضت في أكبر المهرجانات. أفلام من كلّ أنحاء العالم، فرنسية، أميركية، يابانية، مصرية، برازيلية، موزّعة على أقسام عدة، تتقدمها المسابقة الرسمية التي تنطوي على ١٧ فيلماً. بالتأكيد، تمثّل هذه التظاهرة فرصة للسينما اليونانية لملاقاة جمهورها، هي التي عاشت في الفترة الأخيرة بعض الانتعاش، إلا ان عدد السينمائيين اليونانيين الذين يطرحون أفكاراً فيلمية جديدة ومختلفة، لا يزال محدوداً كي نتكلّم عن تيار. من المعروف ان هذه السينما هي سينما نخبوية في المقام الأول، لا تضع الجمهور العريض ضمن قائمة أولوياتها. وفي اطار عنايته بالفيلم المحلي، يخصص المهرجان هذا العام قسماً يطلق عليه عنوان "يونانيو الشتات" تُعرض فيه مجموعة أفلام يونانية أنجزت خارح اليونان.



المخرج المكرّم فيليب غراندريو.


هذه الأيام العشرة هي فسحة للجمهور للتفاعل مع سينما مختلفة تبقى عادة خارج حسابات الموزعين التقليديين. أضف إلى ان تسالونيك مدينة طالبية، المعدل العمري فيها منخفض، والمهرجان يأتي إلى الشباب بما يهذّب ذائقتهم السينمائية. المشاهدون يستجيبون كلّ أنواع الأفلام من دون تفرقة بين هذا وذاك. البطاقات تنفد أحياناً، كما حصل مع فيلم جيم جارموش الوثائقي "غيمي داينجر".


جارموش للمناسبة، افتُتح المهرجان بآخر فيلم له، "باترسون"، الذي سبق أن عرُض في مسابقة كانّ، إلا إنه خرج خالي الوفاض من هناك، مع إنه كان أحد العناوين المفضّلة لدى النقّاد. هذه ليست المرّة الأولى يزور فيها جارموش تسالونيك، لقد سبق أن كان هنا قبل ثلاث سنوات، وأتيح لنا إلتقاط صورة له وهو يتحدّث مع زميله ألكسندر باين (يوناني الأصل) خلال حفل الافتتاح.



أوريستيس أندرياداكيس، المدير الفني الجديد.


ينبغي التذكير بأن المهرجان لا يعير اهتماماً للنجوم، وإن جاء عدد منهم في الماضي، ولكن لم تُفرش أي سجادة حمراء أمامهم. هنا الهم الوحيد هو إسداء خدمة للجمهور، وتقديم استعادات لأفلام سينمائيين غير مستكشفين بعد، أو طواهم النسيان. هذا العام، ثمة استعادة لأفلام المخرج التركي زكي دميركوبوز، المولود في اسبرطة عام ١٩٦٤. يُعتبر داخل تركيا (غير معروف كثيراً خارجها) أحد رموز السينما المستقلة، أفلامه - كما يقول الناقد ديمتري كركينوس – "تتحدّث عن بشر وقعوا في فخّ الدهاليز الإجتماعية. قبع في السجن ثلاث سنوات لأسباب سياسية، وأفلامه تعليقات على مجتمع يحاول النهوض من إنقلاب ١٩٨٠. تكريم آخر: المخرج الفرنسي فيليب غراندريو. سبعة أفلام ستُعرض لهذا الذي بدأ العمل منذ العام ١٩٧٤. شمل شغله فنّ الفيديو وتجهيز المعارض والأفلام الروائية والتجريبية والوثائقية والتلفزيونية. دائماً بخيارات راديكالية. هناك أيضاً التفاتة لأعمال المخرج والممثل والمغني الأرجنتيني ليوناردو فافيو (١٩٣٨ - ٢٠١٢)، الملقب بـ"جيمس دين الأرجنتين". سيأتي أيضاً إلى المدينة لوتشيانو توفولي، مدير التصوير الكبير (٧٩ عاماً) المسؤول عن أعظم مشهد لقطة واحدة في تاريخ السينما: اللقطة الأخيرة في "المهنة: مراسل" ("المسافر" بالانكليزي) لميكل أنجلو انطونيوني، لتقديم درس سينمائي في التصوير. في مهرجان لوكارنو الماضي، أتيح لي أن أدردش مع توفولي عن تجربته مع انطونيوني وداريو ارجنتو وموريس بيالا وغيرهم. أخبرني بالتفاصيل كيف نفّذ اللقطة الاسطورية على مدار ٣ أيام. ولما دهمنا الوقت واختلطت الأشياء بعضها ببعض، ناولني ايميله كي نتابع الحديث بالمراسلة. "يمكننا التواصل عبر السكايب، اذا اردت"، سألته. "لا، لا أحب صورة السكايب"، قال معترضاً.



أحدث أفلام زكي دميركوبوز.


في العودة إلى فيلم جارموش، "باترسون"، الذي افتتح المهرجان (تغيّب المخرح ولكن أرسل شريط فيديو)، ينسج كالعادة جديده من أشياء بسيطة. يقتفي الفيلم خطى سائق باص (آدم درايفر) يعيش حياة رتيبة تتوزع بين ثلاثة أماكن: البيت الذي يتشاركه مع زوجته الفنانة (غولشيفته فراهاني) والباص، وأخيراً البار الذي يرتاده لتبادل أطراف حديث بلا معنى مع رواد. باترسون هذا وهو ايضاً اسم المدينة التي تجري فيها الحوادث - أو اللاحوادث - (ولاية نيو جرسي) رجل لديه كلّ مقوّمات العيش السليم، بيت وزوجة وعمل، الا ان حياته مسلوبة وسعادته مؤجلة وهي رهن القصائد التي ينظمها في دفتره الصغير. قليلاً قليلاً، يتحوّل الفيلم إلى احدى هذه القصائد البصرية العبثية التي يعرف جارموش كيف يوصل روحيتها إلى قلب المُشاهد من دون أن تبدو مدعية وممجوجة وثقفاوية، وطبعاً من دون أي لجوء إلى العواطف.


 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم