الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

"أيّام قرطاج": فوضى التكوين!

"أيّام قرطاج": فوضى التكوين!
"أيّام قرطاج": فوضى التكوين!
A+ A-

200 ألف عدد المشاهدين الذين تدافعوا إلى قاعات "أيّام قرطاج السينمائية" (28 تشرين الأول - 5 تشرين الثاني) في دورتها السابعة والعشرين، المتزامنة مع خمسينية انطلاق هذا الحدث الثقافي الذي تأسس بمبادرة من الطاهر شريعة قبل نصف قرن، وشهد على مرّ السنوات تحوّلات عدة أرسته على ما هو عليه اليوم، بعدما انتقلت وتيرته من بينالي (مرة كلّ سنتين) إلى سنوي. الجمهور التونسي يستجيب للدعوة، وهو رهان أساسي في تظاهرة سينمائية تجري في بلد ينهض من كابوس قمعه السياسي وإسلامييه، سالكاً درب الديموقراطية بخطى ثقيلة. المتدافعون إلى الصالات بالآلاف. إنتماءات ومشارب مختلفة، لكن ما يوحّد الجميع هو تلك الرغبة في الهرب من الواقع، من الرتابة اليومية التي تفرضها العواصم الكبيرة، وكذلك من إنسداد الأفق الذي تشكو منه منطقة المغرب العربي الكبير.



حشد غفير أمام قصر المؤتمرات.


"الأوضاع الاقتصادية صعبة، ولكننا أكثر حريّة بعد الثورة"، تصارحني صبية عشرينية أحتسي برفقتها كوباً من العصير في أحد المقاهي الرصيفية المنتشرة على ضفتي جادة الحبيب بورقيبة، فيما تمثال الزعيم وهو يمتطي حصانه، عاد إلى "النهج" الشهير، لكنه ينظر هذه المرة في الإتجاه الآخر، مع كلّ ما يعني هذا من رمزية "التغيير للتغيير"، الظاهرة التي فرضها "الربيع العربي". الخمسني الذي يقلّني من الفندق الكائن في حيّ شعبي إلى إحدى صالات العرض، يؤكد كلام الصبية: "سابقاً، كان يتعذر الكلام، الآن يتعذر الأكل". التوانسة عموماً شكاؤون بطبيعتهم. وأصواتهم، بعد ثورة الياسمين - الأنجح في العالم العربي -، تعلو لتنتقد كلّ شيء وأي شيء. "سابقاً، لا أحد كان يتكلّم، الآن لا يتوقفون عن الكلام"، يقول لي ناقد سينمائي معروف خلال غداء يجمعنا في أحد أزقة وسط العاصمة ذات العمارات المتهالكة التي تحتاج إلى ترميم كي تعود إلى شكلها الأصلي بعدما تكدّس عليها غبار كثيف.


يعيدني هذا كله إلى خريف 2006. يومها، دُعيتُ إلى المهرجان للمرة الأولى. قبل خمس سنوات من "ثورة الياسمين" التي أطاحت نظام بن علي، كان الجوّ أصلاً مكهرباً. البلد سجنٌ كبير، العيون في كلّ مكان، ترصد الصغير والكبير: مناخ بوليسي بأدق تفاصيله. اليوم، بعد دخول تونس مرحلة جديدة من تاريخها، وفي ضوء كلّ ما يحصل في العالمين العربي والغربي، يصعب تقديم جردة حساب موضوعية دقيقة عن هذا المهرجان، بعيداً من المهاترات والحسابات الشخصية والمناكفات الايديولوجية والأخبار الشعبوية التي تمنع أي مقاربة نقدية جادة لهذا الحدث الذي اختُتم السبت الماضي وقدّم طوال 9 أيام فكرة شبه شاملة عمّا آلت إليه السينما العربية والافريقية، من خلال عرض أحدث انتاجاتها. الموضوعية في هذا المجال تعدّ تحدياً كبيراً، ذلك ان الرأي والتقييم يستمدان تفاصيلهما من مصدرين أساسيين: المهرجان نفسه، أي كلّ ما يتعلق بالتنظيم وما يقف حائلاً بين المُشاهد والفيلم من جهة، والأفلام ومستواها من جانب آخر. التداخل العشوائي بين هذا وذاك، ينتج رأياً كيدياً أو متحاملاً.


على صعيد التنظيم، وبصراحة مطلقة، ينقص المهرجان الكثير. وعندما نقول "التنظيم" علينا التوضيح أننا لا نعني به ما يحصل على السجادة الحمراء وأشياء مثل الفجوة على الأرض التي سقطتفيها طالبات شهرة بالكعب العالي كنّ أتين إلى تلك الأمسية حيث اختلط الحابل بالنابل. هذا من إختصاص الصحافة الصفراء المتطفلة. أي مهرجان سينمائي هو قبل كل شيء أفلام وسينمائيون مشاركون فيه. وظيفة النقد الجاد هي تقييم برنامج الأفلام، الذي بجودته وجودة ضيوفه السينمائيين يجود المهرجان ويسمو. وعندما نقول تنظيم، بالمعنى النقدي، فلا نعني به سوى كلّ العناصر التي تقف حائلاً بين المُشاهد والفيلم. لا تعني كلمة تنظيم نوعية الأكل في الفندق أو عطلا طارئا على المصعد، أو كلّ التفاصيل السطحية العابرة التي تركّز عليها صحافة الاسفاف الحافلة بالأخطاء اللغوية، لتقييم دورة كاملة. وهذا هو أيضاً رأي الصحافي والناقد بشار إبرهيم الذي كتب على صفحته الفايسبوكية وهو يغادر تونس: "إذا كانت أهمية المهرجان بالأفلام، فأنا شاهدتُ باقة من أجمل الأفلاموأهمّها. إذا كانت أهمية المهرجان بأي شيء آخر، فأنا لا علاقة لي بهذه الأشياء. لقد شاهدتُ سينما على قدر كبير من الأهمية. وقابلتُ سينمائيين أحبّ وأحترم". الأكثر سوءاً في المسألة، ان أحداً من كتّاب مواقع ترويج السخافات لا ينشر عن أي فيلم، بل يكتفي بالتجوّل في أروقة المهرجان ليملأ زاده بعناوين شعبوية رنانة.



"كوثر لا تحبّ الثلج" لكوثر بن هنية الفائز بـ"التانيت الذهب".


لا شكّ ان "أيّام قرطاج" تحتاج إلى إعادة نظر جذرية في الكثير من خياراتها، غداة الدورة المنتهية للتو، وخصوصاً أنها "المهرجان الذي لعب دوراً كبيراً في بناء تونس المعاصرة، وساهم بشكل كبير في دعم المواهب الشابة وتطوير الذائقة السينمائية عند الجمهور التونسي، ملتزماً هموم المجتمع التونسي والعربي والإفريقي"، كما يقول المدير الفني المثير للجدل إبرهيم لطيف في إفتتاحيته المنشورة على موقع المهرجان، حيث يطالب أيضاً بإستقلالية المهرجان عن الدولة (وزارة الثقافة)، مما يساعده على إتخاذ القرارات. أياً يكن، على الإدارة إعادة تحديد دور المهرجان التاريخي، والنظر في خياراتها سواء في ما يخصّ الأسماء المشاركة في لجان التحكيم أو عدد المكرمين المبالغ فيه في طبعة واحدة أو النشاطات الموازية، وصولاً إلى طبيعة حفلي الإفتتاح والختام اللذين كانا المصيبة الكبرى في هذه الدورة، وخصوصاً مع تغيير المكان (قصر المؤتمرات بدلاً من المسرح البلدي)، ونتجت منهما عشوائية وتخبط وفوضى. بلى، فوضى! ولكن، للأمانة، انها فوضى خلاّقة بعض الشيء. الفوضى نفسها لو حدثت في مهرجان لا يستمد شرعيته من سينيفيلية حقيقية لما مرّت. ما حدث في "أيّام قرطاج" هو فوضى التكوين، الناتجة من إعادة تركيب مجتمع تواق إلى الديموقراطية وممارسة تفاصيلها. هي فوضى شديدة الخصوصية، لا تُغتفر لو حصلت في أي من المنابر الغربية مثلاً، ولكن في الحالة التونسية يمكن إيجاد أسباب تخفيفية لها. مهما يكن، فهي فوضى صحيّة تشي بحركة وديناميكية، إلا انه يجب وضع الأمور على السكّة الصحيحة (سريعاً) وإستخلاص العبر من هذه الدورة.



سينما في الفضاء الحرّ.


ثم، بعض الحقائق في نظرنا يجب أن تُقال: الإحتفالية المراد تقديمها في مناسبة الخمسينية كانت تحتاج إلى دراسة أعمق وفريق أكبر وطموحات بحجم الإمكانات. صحيح ان قصر المؤتمرات ذو قدرة استيعابية أوسع، إلا انه لا يصلح لمشاهدة الأفلام، فهو ليس صالة سينما. هناك أيضاً مشكلة الترجمة في العديد من الأفلام. معظمها مترجمٌ إلى الفرنسية، لغة لا يجيدها الكثير من الضيوف العرب وضيوف المهرجان. الترجمة الانكليزية لا بدّ منها، وهي نظامٌ معتمد في كلّ المهرجانات الدولية. أمّا الحصول على بطاقات لمشاهدة الأفلام (المهرجان ينظّم أيضاً عروضاً للصحافة لبعض الأفلام)، فهذه هيالمعاناة الكبرى التي يجب حلّها في المرات المقبلة. ذلك ان هذا النوع من العلل يحول دون أن يُشاهد الصحافي أو الضيف الفيلم الذي ينوي مشاهدته، وخصوصاً ان التوانسة يصادرون الصالات طوال الوقت. كلّ هذه الهنات التي يمكن تفاديها بسهولة، أعطت الإنطباع بأن المهرجان يفتقر للخبرة، ولا يمتلك رصيداً كبيراً، كأن حاضره ينفصل عن ماض يحكي تراثا مهرجانيا كان يرد الإعتبار إلى سينما دول الجنوب أو السينما الفقيرة المحمولة على الظهر. أضف إلى ما سبق أن التداخل الهجين بعض الشيء بين كلّ ما ينتمي إلى الصنف الترويجي - الإحتفالي (تكريم عادل امام قد يعبّر عن هذا الجانب من المهرجان) من جانب، وكلّ ما هو فني ثقافي وسينمائي من جانب آخر، يزعزع هوية المهرجان. أيُّ مهرجانٍ يريده المنظمون؟ هذا هو السؤال الذي يجب طرحه في الدوائر المغلقة؟ لا أعتقد ان الاستنجاد بالجمهور (وهي شيء مدعاة فخر في كل حال)، رصيدٌ كاف وقد بلغ المهرجان عمراً لا يجوز له إرتكاب هفوات. إلا إذا اعتبرنا ان عمره من عمر الثورة التونسية، وتالياً يجب فتح صفحة جديدة له.



الأمن ممسوك.


مرة أخرى: الجدل العقيم حول عادل إمام وما كاله خلال تكريمه في الختام عن السينما المصرية من مديح (لا نرى فيه أي تعدّ أو إهانة للبلد المضيف)، ليس من إختصاص الأقلام الجادة، اذ أكثر ما يهم النقد في هذه الدورة، كما في كلّ الدورات السابقة والمقبلة، ينطلق من سؤال واحد: هل إستطاع المهرجان بإمكاناته وظروفه الراهنة وبالغايات التي حصر فيها نفسه، تأمين أفلام ذات قيمة لجمهوره وعرضها عليه في شروط مقبولة؟ يتضح الجواب إذا ما رمينا نظرة على البرمجة، وتعمقنا في مشاهدة الخيارات السينمائية التي كان فيها الغثّ والسمين في طبيعة الحال: أفلام تعبّر عن إتجاهات وموضوعات وسرديات عدّة في السينما الحديثة: مثلية جنسية وعسف سياسي من لبنان من خلال فيلمين صادمين هما "أمبراطور النمسا" لسليم مراد (جائزة لجنة التحكيم الخاصة للعمل الأول) و"تدمر" لمونيكا بورغمان ولقمان سليم؛ التعايش بين الأضداد في مصر من خلال "إشتباك" لمحمد دياب (أربع جوائز منها "التانيت الفضة")؛ السجن والإحتلال في فلسطين من خلال "3000 ليلة" لمي المصري ("التانيت البرونز")؛ التشابك بين ماضي المغرب وحاضره في "جوع كلبك" لهشام العسري (الغائب عن معظم لوائح الجوائز للأسف!)؛ السيرة ولملمة تفاصيلها بنقاء وأمانة في "زينب لا تحبّ الثلج" لكوثر بن هنية ("التانيت الذهب")، وثورة مكلومة يقودها موسيقيون سنغاليون في "الثورة لن تكون متلفزة" لراما ثياو (جائزة لجنة التحكيم الخاصة).



فريد بو غدير مكرماً.


في المحصّلة، وتحديداً في مجال الأفلام، أعتقد ان الكفة تميل إلى الإيجابية. بيد انه يمكن القول انها كانت دورة تقول إنتعاش السينما التونسية عبر حضورها هنا وهناك الذي بدأ في مطلع هذا العام. إنها سينما هادئة تأتي في مرحلة ما بعد الثورة. عدد المخرجين التوانسة الذين يعدون بسينما صادقة تولد في محيطهم وفي الوقت عينه يخاطبون القريب والبعيد، إلى ازدياد ملحوظ، وهم يخوضون هنا إما تجاربهم الأولى وإما الثانية. جيل يأتي بأفكار جديدة، بعضها راسخ منذ الثورة وبعضها الآخر يسلّم نفسه للجرأة والتجريب والمغامرة. هذا الجيل لديه فهمٌ آخر للسينما، بارع تقنياً، منفتح ثقافياً واجتماعياً، ناضج انسانياً. هذا ما لمسناه في "الأيام"، من خلال ستة أفلام تونسية، أربعة منها سبق أن عُرضت في مهرجانات دولية كبيرة. ستة أفلام فقط في المسابقتين، الرسمية والمخصصة للعمل الأول، علماً ان هناك بانوراما للفيلم التونسي فيها 12 فيلماً. اذاً، هناك "بحبك هادي" لمحمد بن عطية الذي عُرض في مسابقة برلين الفائت حيث نال جائزتين، عمل متوسط القيمة لكنه يحمل نواة سينما يستلّ همومه من الواقع التونسي الصرف وينقله بلا ماكياج. ثم هناك "شوف" (جائزة أفضل مقطوعة موسيقية) لكريم دريدي الذي عُرض في كانّ هذا العام. نصّ محبوك جيداً يحملنا إلى عالم المخدرات، مثلما يزج بنا فيلم لطفي عاشور، "غدوة في"، في العنف المتولد في تونس غداة الثورة التونسية وهروب بن علي من خلال ثلاث شخصيات، خلافاً لمهدي هميلي الذي يموضع فيلمه "تالا مون أمور" في الأيام الأولى لشرارة الثورة. في حين يبتعد "آخر واحد فينا" لعلاء الدين سليم (عُرض في البندقية حيث نال "أسد المستقبل") عن كلّ شيء يصنع الحياة الحديثة، فيدخلنا في الغابات من خلال شخصية صامتة يحاول الصمود في وجه الموت المحتم بعد محاولة إنتقاله الفاشل إلى أوروبا. أما كوثر بن هنية التي نالت "التانيت الذهب" عن "كوثر لا تحبّ الثلج" (عُرض في لوكارنو)، فهي ترافق حياة زينب منذ الطفولة حتى المراهقة. عمل إشتغلتْ عليه صاحبة "شلاط تونس" سنوات مديدة، كما تردد. معظم الأفلام التونسية ورد على لائحة جوائز المهرجان الذي ترأس لجنة تحكيمه الموريتاني عبد الرحمن سيساكو.



تكريم مثير للجدل لعادل إمام.


إلى هذا الجيل، هناك أيضاً الجيل الأسبق من التوانسة: رضا الباهي الذي افتتح المهرجان نفسه بجديده "أزهار حلب"، عن أم تونسية (هند صبري)، تذهب للبحث عن إبنها الذي انضم من دون سابق تحذير إلى الجهاديين في سوريا، تلك التي تتخبط في الدمّ والركام. إلا ان الفيلم يقوم بخيارات غير صائبة في الكثير من فصوله (لا سيما في النهاية)، مفضّلاً الحدوتة (تونس أكبر مصدّر للجهاديين في سوريا) على الدراسة النفسية لقضية أخلاقية دينية اجتماعية لا تزال يعاني منها المجتمع التونسي. العمل برمته يخون نيات المخرج الحسنة، فيقع في الطرح السطحي الباهت. فيلم الجهاد لا يزال ينتظر مَن سيقدمه بطرح متماسك وعمق، علماً انه كان لرشيد بوشارب تجربة مماثلة عُرضت في مهرجان برلين الماضي وكانت غير موفقة. مثل رضا الباهي، فيلم فريد بو غدير، الذي يعود بعد سنوات غياب بـ"زيزو - عطر الربيع"، كوميديا ذات ألوان زاهية. يفضي بنا الفيلم في ختامه إلى الثورة التونسية. على ما يبدو ان كلّ الطرق تؤدي إلى تلك الثورة التي ستبقى طويلاً في وجدان السينمائيين، إلى درجة إنه بات في الإمكان الحديث عن هذه السينما على مرحلتين؛ هناك ما قبل تلك الثورة وما بعدها. إلا ان كثراً، وخصوصاً من الجيل الشاب، يرون ان بو غدير سخّف الثورة، عبر عرضها بأسلوب كوميدي اكزوتيكي ساذج.
للمناسبة، "زيزو" هذا، شاهدناه في سجن مرناق (ضاحية تونس)، ضمن عرض افتتاحي لقسم "سينما السجون" في حضور وسائل إعلام ومسؤولي السجن وإداريين وفريق الفيلم. كانت أصوات المساجين ترتفع مع كلّ مشهد حبّ أو غزل بين البطل والفتاة التي يقع في غرامها. فـ"الأيام" هذه السنة درات على السجون في مناطق عدة، في خطوة تحمل رسالة إنسانية سامية. المساجين ليسوا سوى أبناء المجتمع التونسي. يقبعون خلف القضبان ريثما يتم إصلاحهم ليعودوا إلى الحياة الطبيعية مجدداً. معظمهم في العشرينات، لا يمانعون أن تلتقط لهم صورة وهم ينظرون إليك ويبتسمون. أحد المسؤولين داخل السجن قال ان طفلاً رسم السجين ككائن فضائي عندما طُلب منه رسمه، وعلّق: "انظروا إليهم إنهم ابناؤنا".



سينما السجون: ادخال البهجة إلى قلوب السجناء.


الحقيقة إنه على الرغم من تعدّد المواعيد السينمائية في العالم العربي، فهذا الموعد لديه طعمٌ آخر، نظراً لشعبيته وتماهيه مع ايقاع التطور في المجتمع، وتاريخه الممتد على خمسة عقود. يكفي الوقوف أمام المدخل الرئيسي لصالة "كوليزيه" ومراقبة الناس الذين ينتظرون في الطوابير لمشاهدة فيلم لا تربطهم بحوادثه أي علاقة، ليعود الأمل إلى العيون. ثمة أصالة، مفقودة حتى في بعض المهرجانات الأكثر تنظيماً وخبرة وأكبر موازنة. حين تم تأسيس "أيّام قرطاج"، كانت السينما في العالم العربي والأفريقي (ما عدا في مصر) ناشئة، ولكن هذا لم يمنع مؤسسه من المضي في مغامرة راحت تتبلور لتتأسس هذه العلاقة غير القابلة للكسر بين المُشاهد التونسي والمهرجان، حدّ ان الجمهور تحدى الأيادي السود التي تبعث بالأمن وتهدد إنتعاش الثقافة والفنّ في بلدهم العام الماضي اثر الهجوم الإرهابي الذي استهدف حافلة تابعة للأمن الرئاسي. خرج الناس ليعودوا إلى الصالات، فيما اكتفى جرذان الإرهاب والتطرف في الإختباء. هذا العام، كان الأمن مستتباً، إلا إن بعض الإنتقادات التي لا تطال لا السينما ولا طريقة وصولها إلى الجمهور، مارست إرهاباً من نوع آخر في الصحافة الاستهلاكية البائسة. إرهاب ينم عن نظرة ذكورية أخلاقوية تضع أموراً كملابس المرأة وكشف ظهرها أو كتفها أو بطنها أو طريقة مشيتها واسلوب تقديمها لنفسها في صدارة خطابها المقيت. مع ذلك، هناك مَن لا يكترث لمثل هذه التعليقات التي يتداولها ليس فقط ذوو النزعة الإسلامية، وفي مقدمهم التونسيات اللواتي يملأن كلّ الأماكن. تونس تذهب إلى السينما، لأنها رغم كآبتها ليلاً فإنها تحبّ الحياة، إذا أردنا تحريف عبارة فرنسوا تروفو الشهيرة. الحلم والأمل غير متوافرين في الواقع اليومي، إنما يمكن العثور عليهما داخل الشاشة. لدى جيل كامل من السينمائيين الذين وطئت أقدامهم قرطاج للمرة الأولى في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته، تشكّل "الأيام" خزاناً للذكريات يتجلى فيهاالحنين والحسرة. عشية مغادرة تونس، أجلس مع محمد ملص في المقهى المحاذي لفندق "أفريكا" (مقر المهرجان) لأحدّثه عن زمن يتسرب من بين الأنامل، هو الذي نال "التانيت الذهب" مرتين، مرة عن "أحلام المدينة" ومرة عن "الليل". يتذكّر قائلاً: "في المرة الأولى التي أتيتُ فيها إلى تونس مع "أحلام المدينة" سنة 1984، استمعتُ إلى زقزقة العصافير في شارع الحبيب بورقيبة. لا نزال نسمع الزقزقة. إنّها الشيء الوحيد الباقي حتى اليوم. أشياء كثيرة تغيرت. العصافير لم تتغير".

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم