الجمعة - 10 أيار 2024

إعلان

بعد أن حقّقوا مطالبَكم تفرّغوا لـ"العابثين بأمنكم"

فيفيان عقيقي
بعد أن حقّقوا مطالبَكم تفرّغوا لـ"العابثين بأمنكم"
بعد أن حقّقوا مطالبَكم تفرّغوا لـ"العابثين بأمنكم"
A+ A-

أخيراً تمكّنت الدولة اللبنانيّة من رفع النفايات من الشوارع وأنشأت معامل معالجة للتخلّص من الأزمة نهائياً. باتت الكهرباء ضيفاً دائماً في بيوت اللبنانيين، وتخلّصوا من استبداد أصحاب المولّدات. عُلّقت عدّادات للمياه لكلّ المشتركين، واستهلّت الدولة عمليّة الاستفادة من الثروة المائيّة وبدء تصديرها إلى الخارج وإطلاق مشاريع لتوليد الطاقة. بدءاً من الغد سيبدأ تسجيل أسماء المستفيدين من ضمان الشيخوخة، ستصبح المدارس والطبابة مجانيّة، ستنطلق عمليّة ترميم الطرقات وتنظيم النقل المشترك وتسيير "المترو". بعد غد ستقيم الحكومة اللبنانيّة مراسم استقبال العسكريين المخطوفين في عرسال، وتكشف عن مصير المفقودين في الحرب اللبنانيّة، وتعيد اللاجئين إلى بلدانهم، وتعلن عن النتائج التي أفضت إليها التحقيقات في ملفات الاعتداء على الجيش وستعاقب المرتكبين.


أمّا الآن وبعدما حلّت مشكلات اللبنانيين لم يبقَ سوى أولئك "المشاغبين" الذين هزّوا الأشرطة الشائكة خلال التظاهرات، وناشطين آخرين كتبوا تعليقات في مواقع التواصل الاجتماعي، فتفرّغت الأجهزة الأمنيّة والقضائيّة لملاحقتهم ومعاقبتهم. ففي غضون أسبوعين، أوقفت الأجهزة الأمنيّة الساهرة على أمن المواطن عشرات "العابثين بأمن الأمّة"، من ضمنهم أشرف الرشعيني الطالب في الجامعة الأنطونيّة التي ادّعت عليه إدارته لرفعه شهادته مرفقة بعبارة "حتى الشهادة بهل بلد صارت زبالة"، ميشال الدويهي الذي اعتقل عشرة أيّام بتهمة "إثارة النعرات الطائفيّة والمذهبيّة" لانتقاده جهاز الأمن العامّ بعد القبض على أحمد الأسير، وذو الفقار حركة الذي نشر شريط فيديو في صفحته الخاصّة ينتقد فيه أغنية محمد اسكندر والمستوى الهابط الذي وصله الفنّ.


في ظلّ غياب قانون يعرّف ويحدّد جرائم المعلوماتيّة، هل باتت مواقع التواصل عبارة عن مساحات عامّة خاضعة لقانوني المطبوعات والعقوبات أم صفحات تعبير خاصّة وشخصيّة لصاحبها؟ وهل حريّة التعبير التي يكفلها الدستور والشرعات الدوليّة لحقوق الإنسان باتت خاضعة لاستنسابيّة وأهواء المرجع المحاسب؟


تؤكّد الأستاذة في العلاقات الدوليّة الدكتورة ليلى نقولا لـ"النهار" عدم وجود نص واضح يحدّد الجرائم المعلوماتيّة في لبنان، ما يفتح المجال أمام الاستنسابيّة في كيل التهم وإطلاق الأحكام، وتضيف: "هناك خيط رفيع بين حريّة الرأي والتعبير وبين الافتراء والقدح والذمّ التي لكلّ منها تعريف قانوني في قانون العقوبات. أمّا التسبّب بإثارة النعرات الطائفيّة والمذهبيّة فهي تحمل كثيراً من التأويلات. لا يوجد نصّ واضح وشفّاف ودقيق لجرائم المعلوماتيّة وما يندرج ضمنها، لذلك يأتي القانون فضفاض وغير مواكب للتطور التكنولوجي ويفتح المجال أمام الاستنسابيّة في توجيه التهم، إذ يمكن أياً كان أن يتقدّم بدعوى، فتأخذ طابع التعدّي على الحريّات والتخويف من كتابة الآراء السياسيّة، بانتظار أن يبتّ القضاء فيها". وتضيف نقولا: "يحتاج الموضوع إلى قانون صريح ونصّ واضح، وأن تتحرّك منظّمات حقوق الإنسان لدعم حريّة التعبير عن الرأي والوصول إلى المعلومات. فحقّ التعبير مقدّس ولا يجوز جرّ الناس إلى المحاكم فقط لأنهم عبّروا عن آرائهم كتابة في مواقع التواصل".


وعن الإرث الذي تركه النظام السوري للبنان، تستذكر نقولا ما تعرّض له شبان ينتمون إلى التيّار الوطني الحرّ وغيره من الأحزاب، عارضوا الاحتلال السوري وتظاهروا ضدّه، وتقول: "في زمن الوصاية كان هناك مجموعة من التهم المعلّبة التي تلصق بالشباب، منها "وهن نفسيّة الأمة" و"إضعاف الشعور القومي"، واللتان استبدلتا بـ"إثارة النعرات"، وهي تهم لا تحوي أي تعريف أو توصيف قانوني، بل مجرّد كليشيهات وتهم سياسيّة لجرجرة الشباب إلى المحاكم". وتتابع نقولا: "لقد انتهى زمن الوصاية منذ عشر سنوات، كما نجحت قوى "14 آذار" بتغيير التركيبة في الوزارات والإدارات العامة، وتالياً لا يجوز إلقاء اللوم على جهات خارجيّة دائماً، فالسلطة اللبنانيّة تمارس الكيديّة السياسيّة وفق الأساليب السلطويّة والإقصائيّة نفسها التي استعملت خلال الوصاية السوريّة، كما أن العقليّة اللبنانيّة لا تختلف عن العقليّة الأمنيّة السوريّة الإلغائيّة والديكتاتوريّة. من حقّ المواطن انتقاد عمل أي جهاز أو مؤسّسة شرط أن لا يتخطّى الحدود المرسومة له قانوناً من خلال الاعتداء على الأملاك العامّة والخاصّة أو القدح والذمّ والافتراء".


وضع قانون العقوبات اللبناني في أربعينات القرن الماضي، وحتى اليوم لم يلحظ أي تعديل يواكب التطوّرات التكنولوجيّة التي تندرج ضمنها وسائل التواصل الاجتماعي، وتالياً يعود للقاضي الاجتهاد في ما يتعلّق بهذه القضايا فإمّا أن يطلق أحكامه وفقاً لقانون المطبوعات أو لقانون العقوبات. إذ يستند أغلب القضاة إلى المادة 209 من قانون العقوبات التي تشير إلى العلنيّة بالمجاهرة في الآراء وهو عنصر متوافر في مواقع التواصل وإلى مواد أخرى تحدّد جرائم القدح والذمّ وإثارة النعرات ووهن شعور الأمّة. ويؤكّد الأستاذ في الحقوق الدكتور عقل عقل لـ"النهار" أن "لا يجوز ملاحقة كلّ ناشط على مواقع التواصل الاجتماعي لمجرّد تعبيره عن رأيه. وعلى الرغم من أن لبنان يتغنّى بالحريّات، ودستوره يتميّز عن غيره من الدساتير العربيّة، شرط أن لا تعتري ممارسة هذه الحقوق اعتداءات على الممتلكات العامّة والأجهزة الأمنيّة أو المسّ بمؤسّسات الدولة بطريقة افترائيّة وغير مثبتة، فتضطر الدولة إلى اتخاذ تدابير حازمة تصل إلى استدعاء الأشخاص والتحقيق معهم، وهو أمر طبيعي ويحصل في كلّ الدول الديموقراطيّة".


بين حرية الرأي والتعبير وتخطّي المحظورات، وتالياً ارتكاب جرائم موصوفة في قانون العقوبات، خيط رفيع، وحدها المسؤوليّة في التعبير تحفظه. كما أن بين القمع وتطبيق القوانين خيط رفيع آخر وحدها الديموقراطيّة وممارستها فعلياً لا شكلياً تحميه.


 [email protected]


Twitter: @VIVIANEAKIKI

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم