الأحد - 05 أيار 2024

إعلان

كتاب - حياة السيد موليير بقلم ميخائيل بولغاكوف

جينا سلطان
A+ A-

بنكهة غنائية محببة يسرد الاديب الروسي الكبير ميخائيل بولغاكوف حياة السيد موليير الذي عمِّد باسم جان باتيست في باريس 13 كانون الثاني 1622، مما يعطي الرواية طابع الحكاية الشعبية، المبنية على التواطؤ والشراكة بين القارئ والمؤلف. فنبض الشغف المسرحي يعبر فواصل التاريخ والجغرافيا ليذكي الثقة في ابداع مقترن بالكد الدؤوب.


ولدت الكوميديا الفرنسية وسط الضجيج الهادر فوق الجسر الجديد، بوصفها مكملا للنشاط التجاري المزدهر. فممثلو الشارع الجوالون اتفقوا مع أصحاب الحوانيت على تقديم عروض كاملة يمدحون فيها أدوية الدجل ذات التأثير العجائبي. وكان يصدف أحيانا أن ينضم إليهم ممثلون مثبتون في مسارح، الأمر الذي انعكس على مدينة باريس فغدت اجمل وتوسعت في الاتجاهات كلها، بينما ظلت مهنة الممثل المهرج مدموغة بالهزء والاحتقار. في هذه الأجواء تشرب موليير عشق المسرح وواظب مع جده على التجوال بين العروض التراجيدية والكوميدية حتى استنفدا الاحتمالات كلها.
حين رفض المراهق المستقبل الذي ينتظره بوصفه الابن الاكبر لمنجد ملكي، أدخله جدّه مدرسة كليرمون الباريسية. فدرس مع ابناء النبلاء والبورجوازيين، التاريخ والادب القديم والحقوق والفيزياء واللاهوت والفلسفة. وتعلم الانضباط واكتسب الخبرة التي تنفعه في المستقبل. في اوقات الفراغ واظب على ارتياد المسرح مع اصدقائه الكليرمونيين. وفي اواخر دراسته تعرّف إلى ممثلة اسمها مادلين بيجار تكبره بأربعة اعوام، تتمتع بموهبة حقيقية كبيرة. أما حبّ المناقشة الواضحة والدقيقة واحترام الخبرة واحتقار الرياء والتفاصح، فسهّل عليه الكتابة المسرحية الاحترافية.
يستفيض بولغاكوف في وصف بطله المحبب موليير، متوقفاً عند دمامته الواضحة، والسخرية اللاذعة التي تستوطن عينيه، ولا تخفي الشهوانية الأنثوية الكامنة فيهما. في الوقت نفسه ترسم دهشة ابدية تجاه الوسط المحيط، تخفي طبعاً حاداً ومزاجاً متقلباً يتنقل به من لحظات المرح إلى التأمل العميق.
هجر موليير منزله وتوجه الى أفراد اسرة بيجار، المُتّقدي الشغف تجاه المسرح، وجازف معهم بالمال لتأسيس "المسرح المتألق". الذي افتتحه في نهاية عام 1644 بمسرحية تراجيدية مُنيت بفشل ذريع. إذ تزامن العرض مع وصول واعظٍ راح يلقي خطبا ملتهبة مفادها ان الشيطان لن يختطف بمخالبه الممثلين الملعونين فقط بل والذين يحضرون كوميدياتهم. بدأت الامور تسوء يوماً بعد يوم، ليتم اقتياد موليير إلى السجن بسبب تراكم الديون. وبعدما استمر الاحتضار العسير لـ"المسرح المتألق" بعض الوقت، كفّ عن الوجود عام 1645.
مات "المسرح المتألق" فانتقل موليير الى وضع الممثل المتشرد وهو يجرّ وراءه عائلة بيجار، فتعفروا بالغبار في القرى، وعلّقوا في العنابر خرقاً وسخة بدلا من الستارة. صدف أحياناً أن مثّلوا في قصور غنية وفي غرف استقبال، وطالبوا بالسماح لهم بالتمثيل لأجل الشعب. لكن الإبداع بقي مقيّداً في ظل الرقابة الصارمة للسلطة. فكان عليهم اللجوء الى حيل ماكرة كتقديم الغلّة الاولى لصالح الدير او لأعمال البرّ، وبهذه الطريقة المكلفة كان من الممكن انقاذ المسرحية. في بوردو رنّ الذهب للمرة الأولى في جيوبهم. فقط، في ظل سلطة قوية ومتينة وغنية، يمكن الفن المسرحي ان يزدهر، فتمكنوا خلال الاعوام اللاحقة من الوفاء بديون "المسرح المتألق". في عام 1651 بدأ موليير بتأليف مسرحيات هزلية مرحة وعبثية من فصل واحد، حاكى فيها الايطاليين، ملبّيا تعطش الناس للضحك. تكرر فشله في أداء المسرحيات التراجيدية، لأنه كان ممثلا كوميديا بالفطرة. وكان هذا احد اسباب الانهيار المأسوي لـ"المسرح المتألق".
مع مسرحية "الطائش" تدفق الجمهور فتغلب موليير على المنافسين المحليين وغنم منهم الممثلين الرائعين. بهرت هذه المسرحية الامير كونتي في بيزيتا، فمنحهم الرعاية خلال عامين كاملين وأتاح لهم كسب الكثير من المال، فاختبروا الشعور بالقيمة الذاتية. ولكن في حياة التمثيل لا توجد ورود فقط بل واشواك ايضا. إذ احيط محب المسرح كونتي بأحد الاساقفة فانتهت الفترة الساحرة فكان عليهم اجتياز فرنسا في مطلع العام 1658 عائدين الى مدينة روان. خلال تلك الفترة تغلغل موليير في دوائر البلاط، معتمدا على بعض التوصيات المادحة، كما وجد مدخلاً إلى الكاردينال مازارين الكلّي القدرة. وحظي بنقلة نوعية كبيرة حين حصل على رعاية فيليب الأورلياني الاخ الوحيد للملك، الذي خصص للفرقة راتبا شهريا مع صالة في "بوربون الصغير" ليعرضوا بالتناوب مع فرقة ايطالية. فافتتح العروض امام الملك وحاشيته بالمسرحية الكوميدية "الطبيب العاشق" التي ألّفها في لياليه المؤرقة. واستقطب نجاح الفرقة تدفقا جماهيرا كبيرا، ثبت موهبة موليير، فانتشرت عبر باريس كلها مجموعة جديدة من الشهود المتحمسين.
ساعد القالب الكوميدي الهزلي موليير على انتقاد مظاهر المجتمع المخملي السلبية، مما جرّ عليه خصومة الأعداء والحساد. فمسرحيته "المتحذلقات السخيفات" انتقدت الجمل التافهة التي أدخلتها الصالونات الى الادب الفرنسي. أما "سغاناريل" فشخّصت النموذج العام لملاّك غيور وحسود، وجلبت عليه خصومة البورجوازيين. وفي "طرطوف" دخل بالتباسات بين الفن والواقع، ومع "دون جوان" تخاصم مع الاطباء. وعلى رغم تزايد خصومه انتقل من نجاح إلى آخر بفضل دعم الملك الشغوف بالمسرح.
بداية الانحدار في مسيرته تزامنت مع زواجه من أرماند ابنة مادلين بيجار، زوجته غير الشرعية الأولى. فانطلقت الشائعات مسممة حياته بأنه ارتكب سفاح القربى المحرم بزواجه من ابنته. وحين دخل في نزاع الموت رفض ايٌّ من الاطباء مساعدته ومات من دون اعتراف ومن دون ان يتخلى عن مهنته التي أدانتها الكنيسة. فأعطى مطران باريس الاذن بدفن موليير، شرط ان يُدفَن على عمق خمسة اقدام وأن يتم تجنب العزاء والجلبة، وان لا تتلى على روحه اي صلوات. وعند التشيع سار حشد من مئة وخمسين شخصا بصمت من الفنانين والتشكيليين وهم يحملون المشاعل. ودُفِن حيث يدفن المنتحرون والاطفال غير المعمّدين. فانطوت حياة ماجدة بصمت حزين.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم