الأحد - 05 أيار 2024

إعلان

مَل غيبسون واليهود: وراك وراك!

المصدر: "النهار"
A+ A-

"كنتُ أحلم دائماً بامرأة تحمل كرة، الأمر يستحق فعلاً ان أقطع من أجله كل تلك المسافة من أوستراليا الى تشيكيا"، صرّح مل غيبسون اول من أمس خلال حفل افتتاح مهرجان مدينة الينابيع التشيكية كارلوفي فاري (4 - 12 الجاري)، عندما حمل بإحدى يديه جائزة "الكرة البلورية" التي اسندت اليه لمجمل أعماله. وتابع: "يبدو انني أعاني من فرق التوقيت. أمس فقط، كنتُ على مسافة 15 ألف كيلومتر من هنا"، قبل أن يكشف أمام صالة تجمع فيها أكثر من 1200 مشاهد أنه قبل صعوده الى الطائرة بساعات معدودة، خضع لعملية جراحية مستعجلة في قناة الجذر (الأسنان) عند الساعة الثالثة فجراً.



إستقبال جبابرة حظي به الممثل والمخرج الأميركي الأوسترالي البالغ 58 عاماً لدى أهل هذه المدينة البوهيمية الصغيرة الواقعة على بُعد ساعة ونصف الساعة بالسيارة من براغ حيث يقام مهرجان شهير (130 ألف بطاقة ابتيعت السنة الماضية) ينظم هذه السنة دورته الأخيرة ما قبل الاحتفاء باليوبيل الذهبي. تجمع الألوف حول فندق "ترمال" (آخر رموز الهندسة السوفياتية البغيضة في المدينة)، ليلقوا التحية على رجل يدعى مل غيبسون، يأتي من بعيد، لا يشبههم في شيء. بيد ان السينما لغة كونية عابرة للقيم والألوان والمعسكرات. تحت صورة ضخمة له ترميه في أحضان التسعينات، راح غيبسون يوقّع الأوتوغرافات ويوزع ابتسامة عريضة من هنا ونظرة خجولة من هناك. الرجل لا تحيره لحظات المجد. عرفها عن كثب مذ جلس على تلك الدراجة النارية في "ماكس المجنون" الذي صدر في عهد الرئيس جيمي كارتر. لكن الزيارة التشيكية طعمها مختلف. انها اولاً بلاد يزورها للمرة الاولى، وهي بلاد تقع جغرافياً في أوروبا أجداده. نعم، دم ايرلندي يجري في عروق غيبسون!



هذا الذي طار صيته في الثمانينات بدور القاسي، كان يذكّر في اطلالاته الاولى بستيف ماكوين. لم يكن أحد يعلم آنذاك ان الوحي سيسقط عليه من السماء، وسيقحم نفسه في مهمات تبشيرية صنفته في عداد الفنانين العقائديين. لم تسعفه البتة تصريحاته وزلاته التي اعتُبرت معادية للسامية والصقت بها تهم العنصرية والتمييز والانتصار للقيم المحافظة، خصوصاً تلك العبارات التي رماها عام 2006 في وجه ضابط اعتقله اثناء قيادته في حال من السكر. آنذاك قال للضابط: "تباً لليهود، انتم مسؤولون عن كل الحروب في العالم. هل انت يهودي؟". اعتذر غيبسون، ولكن الاعتذار ليس دائماً مقبولاً عندما يكون المرء شخصية عامة. امّا "آلام المسيح" (2004)، فكان "لعنة" مسيرته... اياً يكن، فالنحو الذي أطل به غيبسون أمس على جمهوره، ممازحاً وواقفاً على المسرح كبهلواني آيل الى السقوط في كل لحظة، كشف عن وجهه الآخر. الشعيرات البيضاء المتداخلة برفيقاتها الشقراوات، كست رأسه، فبدا أكثر حكمة وأقل هماً. ذو "القلب الشجاع" شاخ ولكن لم يوفر فرصة لمغازلة النساء المثيرات في كارلوفي فاري والتقاط الصور معهن. يجب الا ننسى اننا في حضور ممثل انتخبته مجلة "بيبل" عام 1984 "الرجل الأكثر اثارة في العالم".



في الدقائق القليلة التي تكلم خلالها على خشبة المسرح، قال غيبسون انه مجرد راوي حكايات، وتذكر كيف كان ينصت بعينين واسعتين الى الحكايات التي يرويها له والده. "أن نروي القصص، فهذه بهجتي الحقيقية، كما عندما ترى عيني طفل تأخذان ذلك الشكل الدائري وأن ترى الكبار يتماهون مع ما يرونه على الشاشة. هذه الليلة، رأيتُ أناساً تحرك فيهم شيء ما عندما شاهدوا أحد أفلامي. يغمرني الفرح ان أعلم ان القليل الذي قدمته (ظهر في 43 فيلماً وأخرج أربعة!) يتم استقباله هنا وهناك بهذه الحماسة.



بيد ان هذا الأميركي الغاضب الذي هاجر مع عائلته الى سيدني عندما كان في الثانية عشرة، الحائز "أوسكارين"، الذي يؤمن بأن "لا خلاص لمن هم خارج الكنيسة"، لم يرحب به اللوبي اليهودي في جمهورية تشيكيا، فعبّر عن قلقه من تكريم رجل "معروفٌ بكراهيته لليهود وتصويره لهم في "آلام المسيح" باعتبارهم برابرة متوحشين للدم والعنف". بعد مرور عشر سنين على عرض هذا الفيلم، لا تزال الجماعات اليهودية تعترض على عمل سقط في النسيان ولن يعرضه المهرجان، لأنه لا يندرج أصلاً في اطار العروض الاستعادية لأفلام غيبسون. ادارة كارلوفي فاري ردّت على البيان قائلة ان الجائزة تذهب الى النجم الذي يجسده غيبسون والى أعماله ولا علاقة للمهرجان بأيّ شيء آخر مرتبط به.



وأصدر إتحّاد الجماعات اليهودية في تشيكيا بياناً قال فيه ان مهرجان كارلوفي فاري "يتحول بعد منحه مل غيبسون جائزة، الى منبر مشكوك في أمره، يساهم في تحويل البلاد من جوّ تقليدي ومتسامح نسبياً الى بيئة لإمرار الأفكار الكارهة للساميين والأجانب". نتيجة هذه المهاترات، امتنع غيبسون عن عقد مؤتمر صحافي ولم يدل بأي تصريح في هذا الخصوص، واكتفى بإطلالة مباشرة مع الجمهور في احد عروض الهواء الطلق، حيث تردد انه أخذ صور "سلفي" مع المعجبين. وعندما سأله مندوب "هوليوود ريبورتر" عن الموضوع، قال انه لم يعد يريد الكلام في هذا الشأن، ذلك انه سدد كل حساباته واعترف عن خطاياه وفعل ما يجب أن يفعله لكي يصبح هذا الموضوع من الماضي.



ويأتي تكريم غيبسون في جوّ مشحون: ففي الخامس عشر من شباط هذه السنة، خرج عدد من النازيين الجدد من ألمانيا وتشيكيا ومعهم بعض الأطراف المحسوبين على تيارات اليمين الراديكالي في تظاهرة رفعوا خلالها الأعلام والرموز النازية، "تكريماً للشهداء الذين سقطوا خلال الحرب العالمية الاولى". حاول عضو مجلس المدينة ييري كوتيك تفريق المتظاهرين ايماناً منه بضرورة التصدي لتنامي ظاهرة "الفاشية" في المدينة الهادئة. بيد ان الشرطة لم تستطع منعهم من ان يجوبوا المدينة كلها، على الرغم من ان عددهم لم يتجاوز المئة. وجاءت حادثة أخرى لتصب الزيت على النار: فالممثل الانكليزي غاري اولدمان قال في مقابلة لمجلة "بلايبوي" دفاعاً عن مواقف زميله غيبسون إن الأخير يقيم في مدينة يسيطر عليها اليهود، الأمر الذي جعله يضيق ذرعاً بهم، مؤكداً ان "الاستقامة السياسية" قضت على مسيرته الفنية وان كثراً من الناس يفكرون مثل غيبسون ولكن قلة منهم تتجرأ على الاعلان عن رأيه. ولكن، مرة اخرى عندما يتعلق الأمر بهذا النوع من التصريحات (وربما أمام ابتزاز بعض الجماعات اليهودية المتطرفة)، اضطر أولدمان الى الاعتذار قائلاً إنه عندما قرأ المقابلة المنشورة، شعر ان كلامه قد يساهم في تكريس الكليشيهات المغلوطة حول اليهود".



وفعلاً، اذا كان هناك شخصية عامة تراجعت شعبيتها بسبب التصريحات غير المستقيمة، فغيبسون هو النموذج الأبلغ: فمن نجم كبير في الثمانينات قادر على استقطاب كلّ الأعمار بأيّ كلام، ومروّج لسينما غير جدية يغلب عليها الأكشن من خلال أدوار باهتة واعلان فارغ للوطنية ("الوطني" لرولان ايميريك ــ 2000)، سقط غيبسون اليوم الى مستوى سينما سيلفستر ستالوني. لم يعط الرجل أيّ اشارة لولادة ثانية منذ مطلع هذه العشرية، وها انه يشارك في الجزء الثالث من "اكسبندبلز"، بعد مشاريع لم تقنع كثيراً. مجموع ايرادات أفلامه بلغ الخمسة مليارات دولار، واليوم لم يعد يهم أحداً، سوى حفنة من اليهود الذين طاردوه بتصريحاتهم الى مدينة الاستجمام الشهير. وفي هذا، لن يستعين غيبسون بقلبه الشجاع!

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم