الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

طرابلس في يوميات الانهيار... هل استسلمت "عروس الثورة"؟

جودي الأسمر
جودي الأسمر
من مشهدية ثورة تشرين في طرابلس. (الصورة عن "أ.ف.ب").
من مشهدية ثورة تشرين في طرابلس. (الصورة عن "أ.ف.ب").
A+ A-

تترجّل مواطنة من سيارة الأجرة أمام بضعة شبان يقطعون الطريق. تهتف بضيق:
"لماذا تقطعون الطريق علينا؟ اذهبوا إلى بيوت من جوّعوكم. نحن أيضًا جياع".
حاول الشبان، وهم لا يتجاوزون الـ20 عامًا، تمالك أنفسهم، فانتقلت الملاسنة إلى السائق الذي زعقت زمامير سيارته في شارع مصلحة المياه في طرابلس، إلى أن أفسحوا المجال لمروره.

 

يعدّ هذا الصدام واحداً من وجوه الفوضى اليومية التي تنتشر في طرابلس بين تسكير محالّ وقطع طرقات متفرقة وإضرام النار في دواليب بقرب ساحة النور ودوار الميناء ومسلك البداوي والطرقات الفرعية، من جراء الارتفاع الصادم للدولار لغاية الـ15000 ليرة، إلى جانب تناقضات اجتماعية صارخة، تزيد الواقع تعقيدًا، وتنذر بضائقة وقعها مختلف في "مدينة المياومين".

تسكير وشلل
تعود السيدة إلى السيارة، تحمل تفاصيل معاناتها: "بيتي في الزاهرية، بجانب البنك اللبناني الفرنسي حيث كنت أتقاضى معاشي. لكن البنك أغلق كافة فروعه ما عدا فرع الميناء، فصرت مجبرة بأن أقطع المسافة وأنفق مال المواصلات، والمعاش لا يكفينا أصلًا. نصف معاشي جيّرته لمعلمة ابني".
يوميات اللبنانيين الغاصّة بالمآسي المعيشية، يضاف إليها في طرابلس أعباء التنقل إلى المصارف التي تصفّحت جميعها وأغلق بعضها فروعه، بعد أعمال الشغب الّتي طاولت مصارف طرابلس في أيار 2020.
هذه الأم لولدين تعمل سكرتيرة في جمعية بعد توقف زوجها عن العمل في أحد مصانع ذوق مصبح، "لأنّ معاشه بالكاد يكفي إيجار الطريق. فقلت له: ابق أنت مع الأولاد وسأتولى أنا مصروف المنزل".

 

في المشهد العام، أصبح شارع المقاهي مقفرًا من الرواد، تزيد وحشته انقطاع التيار الكهربائي. وأقفلت سائر الصيدليات أبوابها الخميس في 18 آذار، رفضاً لما آلت إليه أوضاع القطاع، وقد انتقل صيادلة طرابلس إلى بيروت للمشاركة في الاعتصام الذي نفذ أمام مبنى وزارة الصحة، مؤكدين "أن تحرك اليوم احتجاجي تحذيري وأنهم متمسكون بالمضي بالتحرك حتى تحقيق مطالبهم"، ومن الصيدليات القليلة المفتوحة، يخرج المواطن خالي الوفاض بسبب عدم توفر الدواء المطلوب، فيزيد الشعور بالغبن والاشتباه باحتباس الدواء بسبب تأرجح الدولار.
وبخلاف الطرقات المزدحمة، تخلو المحال التجارية من الرواد، فعمد سائرها لتسكير أبوابه. وفي حركة احتجاجية ليست الأولى، دعت جمعية تجار "جميل عدرا في طرابلس" التي تضم محال عزمي وقاديشا ومحيطهما، إلى الإقفال التام ، وإلى "المشاركة في التوقف عن البيع للضغط على القوى الاقتصادية في الدولة".

في السوبرماركت

ويتأزم المشهد المأسوي في محال السمانة والسوبرماركات التي أغلقت أبوابها ولم تعد تفي حاجيات الغذاء الضرورية، وقد علّقت على أبوابها لافتات "مغلق بسبب ارتفاع الدولار". وكعيّنة عنها، أقفلت مؤسسة الهوز أبوابها، وهي من أكبر السوبرماركات المحلية، وحذت حذوها "لبنة وزيتونة" و"الأبيض" في أبي سمراء، أما "أبو وحيد" في شارع محرم فلم يصمد طويلًا.
وبينما كانت بقالة "ريماس" تقفل أبوابها، وهي بالكاد افتتحت منذ أسبوعين وقام صاحبها بتوزيع الخبز المجاني لجذب الزبائن، يشرح لـ"النهار" أنه يقفل بسبب "التأرجح الجنوني للدولار. على سبيل المثال، قمت ببيع غالون زيت بـ125000
 ليرة. بعد دقائق تكلّمت مع بائع الجملة فأخبرني بأن السعر قفز إلى 134000 ليرة".
جاره، عبد الكريم شرف الدين، فتح استثنائيًا محله لتصريف ما بقي من ألبان وأجبان. يدخل إليه زبون حاملًا بيديه حبّة بطاطا، يسأله عن سعر الكيلو، وحين يجيبه البائع بـ"خمسة آلاف ليرة كيلو البطاطا"، يرمي الرجل الحبة على الطاولة ويخرج بصمت.
ودخل المواطن أحمد الحاج، وهو أب لخمسة أولاد، لشراء جبنة بلغاري بـ10000
 ليرة، فيعطيه البائع قطعة صغيرة "لا تكفي نصف سندويش". ويعمل هذا الأب شوفير تاكسي، لكنه امتنع عن العمل بسبب تحليق سعر المازوت وقلة الركاب في طرابلس، الذين "لم يعتادوا دفع أجرة 2000 ليرة. لا ألومهم، لكنني لا أستطيع العمل بخسارة".

في السياق، تتواصل احتجاجات سائقي سيارات الأجرة. وعقد نقيب السائقين العموميين في الشمال شادي السيد سلسلة لقاءات، قال خلالها: "ليعلم المسؤولون أن ما يقومون به من أداء، يهدد البلد بمزيد من الغرق، فنحن نرى ونعلم، وحساب الشعب قريب وحساب التاريخ آت لا محالة".  
وتقف أرتال السيارات أمام محطات المحروقات، وقد أجبر بعض السائقين المحطات على ملء خزانات عرباتهم بالوقود، وسط خوف من فقدان المحروقات تعيشه طرابلس كباقي المناطق اللبنانية.  

تناقض وحلول موقّتة

وإذ تتكثف مؤشرات العجز، لا تلقى دعوات النزول إلى الشارع استجابة لدى أهالي طرابلس، كشأن سائر المواطنين اللبنانيين الذين تملّكهم اليأس.
وثمّة خصوصية اقتصادية تتمظهر بـ"تناقضات مخيفة في طرابلس دون سائر المناطق، تجمع بين الغنى الفاحش والفقر المدقع، وهي تعمّق الوجع"، بحسب رئيس قسم الاقتصاد في كلية الاقتصاد وإدارة الأعمال في الجامعة اللبنانية- الفرع الثالث، الدكتور بلال شحيطة.


ويتابع "المفارقة اليوم، أنّ طرابلس هي أقل تأثراً بالأزمة التي ضربت الشركات والمصانع الإنتاجية، التي لا تضمها طرابلس إلا بحدود هامشية جداً. وتعتمد مداخيل شريحة واسعة من أبناء طرابلس على وظائف الحكومة والجيش أو الاعتياش من دولار المغتربين في الخليج وإفريقيا وأوستراليا، وهي في عداد المستفيدين من ارتفاع الدولار. حتى المقاهي، كثير منها يعتمد على خدمة "الدليفري" أو عمل لشهور في الخفية. الخاسرون الأبرز هم المياومون الّذين يشكّلون أكثر من نصف السّكان".


ويتوقّع أنّ "الميناء هي أكثر هشاشة اجتماعياً واقتصادياً ومهيأة للانفجار، لأن أهاليها يعتمدون على الحرف اليدوية والأعمال التجارية الصغيرة، وتزنّرها العشوائيات، بخلاف طرابلس الّتي تعتمد طبقتها العاملة على الوظائف الثابتة التي توفر المداخيل وبعض الخدمات الاجتماعية ولو بحدودها الدنيا".
من ناحية أخرى، "كثير من الفقراء لا يزالون صامدين في طرابلس، بسبب أموال الإحسان والزكاة وعمل الخير وإغاثة الفقير الراسخة في دينامية المدينة وثقافتها اليومية. أضف أنه للمرة الأولى تتدخّل سفارة فرنسا وقبلها السفارة التركية ودولة الامارات لإمداد طرابلس مباشرة بالمساعدات. وهموم هؤلاء الفقراء لا تخطو عتبة الغذاء، منذ ما قبل الأزمة".
ويقول الأكاديمي إنّ "السوبرماركت تغلق أبوابها لحماية مصلحتها وتغلّفها بالاحتجاج على التضخم وحماية القدرة الشرائية للمواطنين. لا أوافق على القول بأنها تتضامن مع المواطن. اتجهت أخيرًا للتسكير لأن ارتفاع الدولار تسارع جداً وتخطى نسبة 30%. في السابق، كان التجار يستبقون هذا الارتفاع من خلال إعطاء هامش زائد في التسعيرة التي لا تتضرر بتحليق الدولار. وأكاد أجزم أن التسكير هو لغرض إعادة تسعير السلع وبرمجتها".

 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم