السبت - 11 أيار 2024

إعلان

تضارب الصلاحيات في جريمة مرفأ بيروت: المجلس العدليّ أو المجلس الأعلى؟

المصدر: النهار - حسين غساني
ظهر في الآونة الأخيرة عدة تساؤلات حول مدى قانونية اختصاص المجلس العدلي في الجريمة التي هزت أمن وكيان المجتمع اللبناني برمته، "جريمة مرفأ بيروت"
ظهر في الآونة الأخيرة عدة تساؤلات حول مدى قانونية اختصاص المجلس العدلي في الجريمة التي هزت أمن وكيان المجتمع اللبناني برمته، "جريمة مرفأ بيروت"
A+ A-
ظهر في الآونة الأخيرة عدة تساؤلات حول مدى قانونية اختصاص المجلس العدلي في الجريمة التي هزت أمن وكيان المجتمع اللبناني برمته، "جريمة مرفأ بيروت". باعتبار أنه كان من الأولى اعطاء الصلاحية للمجلس الاعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء كون الجريمة موضوع الملاحقة توقع المسؤولية بالدرجة الأولى على عاتق السلطة السياسية الممثلة بالوزراء والنواب. لكن الأمر مختلف تمامًا، فليس المعيار في الجريمة القائمة هو الصفة فقط انما وفقا للدستور وقانون أصول المحاكمات الجزائية طبيعة الجرم له اثر أساسي لتوزيع الاختصاص وبدوره يضع حدًا للتنازع في الاختصاص بين المجلس العدلي والمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء باعتبار هؤلاء المحاكم استثناء على مبدأ الاختصاص الشامل للقضاء الجزائي العادي والسند القانوني لهذا الاستثناء هو قانون اصول المحاكمات الجزائية الذي لم يخالف أحكام الدستور عملًا بمبدأ تسلسل القواعد القانونية والذي احال النظر ببعض الجرائم حصريًا لهذه المحاكم وأهمها المجلس العدلي الذي ينظر في الجرائم الخطرة التي تمس أمن الدولة والجرائم التي تقع على السلامة العامة وذلك استنادًا للمادة 356 من قانون أصول المحاكمات الجزائية باعتبار أن جريمة مرفأ بيروت لا ترقى بأن تكون من الجرائم العادية البسيطة مما يستوجب مرجع التحقيق والحكم فيها للمجلس العدلي وفقًا للأصول القانونية التي حدّدتها المادة 355 أ.م.ج وليس للمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء لأن الأوصاف القانونية لهذه الجريمة تتجاوز حدود المجلس الاعلى الذي يتصدى لجرائم خرق الدستور والجرائم المخلة بالوظيفة تكريسًا نظريًا ليس الا، غير مترجم على الأرض!
لتحديد الاختصاص يقتضي التفريق بين نوعين من الجرائم: الجرائم الوظيفية التي يقترفها رئيس الوزراء والوزراء منها الجرائم المرتكبة كالخيانة العظمى واخلالهم بالواجبات الوظيفية المترتبة عليهم كاختلاس من موازنة وزارته مثلًا باعطاء فواتير وأرقام وهمية والجرائم العادية التي يرتكبها الوزير خارج نطاق وظيفته شأنه شأن باقي الافراد كجرائم القتل والايذاء... وكل الجرائم المنصوص عنها في قانون العقوبات استنادًا الى المادة 70 من الدستور اللبناني التي تنص على: "لمجلس النواب ان يتهم رئيس مجلس الوزراء والوزراء بارتكابهم الخيانة العظمى أو باخلالهم بالواجبات المترتبة عليهم ولا يجوز أن يصدر قرار الاتهام الا بغالبية الثلثين من مجموع أعضاء المجلس. ويحدّد القانونَ قانونٌ خاصٌّ شرط مسؤولية مجلس الوزراء والوزراء الحقوقية".
هذا يعني أن المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء ينعقد صلاحيته لملاحقة ومحاكمة الوزراء في الجرائم التي تشكل خيانة عظمى أو الاخلال بالواجبات الوظيفية المترتبة عليهم فقط، وذلك بعد صدور قرار اتهام بشأنهم من قبل المجلس النيابي بغالبية الثلثين مجموع اعضاء هذا المجلس. وتكون الجرائم العادية التي يرتكبونها هؤلاء غير خاضعة لقرار الاتهام الصادر عن مجلس النواب انما يكون من الممكن ملاحقتهم فيها أمام القضاء الجزائي العادي.
وانطلاقا من المادة 70 من الدستور اللبناني التي يجب تفسيرها تفسيرًا ضيقًا وفقًا لما جاء بها اذ لا تعني مطلقًا الجرائم الجزائية العادية المنصوص عليها في قانون العقوبات اللبناني خاصة أن اقدام المشرّع على وضع المجلس الاعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء يعطي البرهان الاكيد على رغبته في الفصل بين مخالفة واجبات وظيفية مترتبة على الوزير وبين الجرم الجزائي العادي. ورغم ذلك نشب خلاف حول كيفية تفسير هذه المادة فهل من الاصح اتباع التفسير الضيق او التفسير الواسع، فإذا تم تفسيرها تفسيرًا واسعًا كما اعتبر بعض الاجتهاد فتكون جرائم التي يقترفها وزير من جرم رشوة واختلاس لمصلحته الخاصة تكون الصلاحية للنظر بهذه الجرائم للمجلس الاعلى وتتم ملاحقة الوزير امام المجلس النيابي باصدار قرار اتهامي وقد أيّدت هذا التفسير محكمة التمييز الجزائية في عدة قرارات صدرت عنها، اما البعض الاخر اعتبر بوجوب تفسير هذه المادة تفسيرًا ضيقًا أي الجرائم الوظيفية هي فقط التي تتصل بشكل مباشر بعملهم الوزاري دون غيرها حتى لو كانت بمناسبة عملهم الوزاري الا انّها لتحقيق مصالح خاصة ليس الا.
بالعودة الى جريمة مرفأ بيروت المقترفة موضوعنا الراهن، يتبين انها لا تتصل مباشرة بالأعمال الوزارية التي أوجب الدستور الملاحقة فيها للمجلس النيابي واذ تم اعتماد تفسير المفهوم الضيق للمادة 70 المقصود بالجريمة الوظيفية تبعًا لهذا التفسير تتصل مباشرة بمهامه الوزارية واستنادًا الى وقائع جريمة مرفأ بيروت حصلت نتيجة التقاعص والاهمال رغم ورود عدة تقارير تدل على خطورة المواد الموجودة داخل المرفأ الا انه رغم ذلك لم يبادر اي مسؤول من رأسهم الاعلى الى اسفلهم بالتحرك واخراج هذه المواد بتلفها ربما لتحقيق مصالح ومكاسب خاصة لذالك قد تكون قد تعدت مفهوم الجرائم الوظيفية وأوجب اخراجها من نطاق المجلس النيابي واخضاعها تحقيقًا ومحاكمة للمجلس العدلي .
نظرا لتضارب الاراء حول كيفية تفسير نص المادة 70 من الدستور اللبناني تفسيرًا واسعًا أو ضيقًا، ونظرًا لصعوبة اصدار قرار اتهامي من قبل مجلس النواب لاتهام وزير بارتكابه جرم تكون بالتالي من مصلحة هؤلاء تبني المفهوم الواسع للجرم الوظيفي وانه من الاصح اعتماد المفهوم الضيق وذلك لتضييق اختصاص المجلس الاعلى الذي لم يفلح حتى يومنا هذا بمحاسبة اي وزير ولم يكن فعالًا لتحقيق العدالة التي نبحث عنها. من الأفضل محكمة التمييز تغيير مسار اجتهادها حول تبنّي تضييق مفهوم الجرم الوظيفي وحسم هذا الجدل لوضع حد للمتذرعين ان المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء هو بوصلة العدالة.
 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم