الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

عن تلك المكتبة...

المصدر: النهار - سارة الدنف
هنا، لكل زقاق قصة تخطف أنفاسها بفعل ما كان قد كتب عنها،
هنا، لكل زقاق قصة تخطف أنفاسها بفعل ما كان قد كتب عنها،
A+ A-
على مفترق غابة حائرة، وسط مدينة لم تغادر ذاكرتها منذ وطأتها للمرة الأولى، على شرفة ضيّقة شارفت مشاهدها البانورامية على التلاشي في أحضان صمت خافت، لم تكن تفكر سوى بشرذمة المعنى وتفاهة رغبتها الآنفة في المجيء.
سيجارتها مستلقية على كتف كوب فارغ، قرب كتاب ألّفه الشّارع الذي تسكن فيه، كما تألَفه ذكرياتها المنحوته حول هالته. فكل ما رأته وتعيش فيه كان جزءًا من آمالها، كانت تقرأه ويخيّل اليها بين الأسطر أنها من تملّكه بفعل الكلمة والفراغ. ارادته بشدّة، بضراوة، وبعنف، وبعد أن حصلت عليه، اكتشفت أن ما أغراها سابقًا لم يكن سوى ما قرأته أو حُدِّثَت عنه من قِبَلِه، في زمن لا ينتمي الى الأزمان وتاريخ خارج التاريخ. مثلها.
وبالفعل، دفعتها حاجتها المحبطة والتائهة للاستنجاد بالكتب والمكتبات، التي تكثر في مغارة اللص حيث حطّت رحالها. لكن رغم وفرة الكتب التي تكاد تكون غير مثَمَّنة، بل وتقدم نفسها بين المباني بائعةً الوحدة كمن يشتري الهوى، الّا أنها لم تعد تقدم على القراءة كسابق عهدها. لم تعد ترغب بافتراس موائد الفكر بعد أن شعرت بسمّها وآفاتها. لم تعد تنقاد الى الصفحات القديمة وروائح العثّ خوفًا من العودة الى ذلك المسرح القديم حيث شاركت، معه، في استعادة الماضي حتّى ابتلعها.
هنا، لكل زقاق قصة تخطف أنفاسها بفعل ما كان قد كتب عنها، لكل حجارة ترنيمة ورائحة تشابه أصوات الزلازل، وفي كلّ بقعة من دخّان فعل متمّرد أو تمثال. لكن ما يعلو على كلّ هذا انجراف اللامعنى في بلاهة الرتابة وسطحيّة تفوّق من يعتاش من هذه الأرض العجوز عن غيرهم، ما جعلها مشمئزة من إقدامها على الرحيل، على نسيانها أن أجدادها قُسّموا كأحجار اللعب، أنها حتى وإن احترفت لغتهم ليست سوى دخيلة على أسوار تعجرفهم المقيت ذي البدل اليمينية، أنها وإن عجزت عن العودة، ولامت للمرة الألف بلادها على حالها، يكفي أن تزور الأماكن الأثرية، فتعلم أنها نسيت في لمعان تلك الكنوز أنها هي وشعبها من سُرق وبيعَ كذبة التبعية، فأذعن لاستعباده، مضطربًا، مثلَهُ، حين مجّدها.
لم تكن على ايقان بكل تلك الحقائق لشدّة ما كانت على مقربة من كل شيء، وفرض المسافة جزء من سنفونية تنجلي بفعل ما يُمطِر في أفكارها وذاكرتها. لكنها حينما ابتعدت وأصبح الحلم معتركها اليومي، والكابوس أكثر ما تشتهيه، أصبحت تنسج من لوحات مكتملة الملامح أشعارًا مشوّهة بأسلوب سيئ لا يليق بها. أصبحت شبه متعطشة لترويض كل شيء من أجل أن تشعر أنها تمتلك نفسها، أنها في مكتبتها الخشبيّة، تبحث عنه، من ألّهها.
لأنها في أعماقها غير المباحة لم تجد نفسها سوى عند تلك المكتبة المهجورة من الضجيج، البريئة من طبول عصر مدنّس بثقل الزيف واستشراء تسليع المشاعر في عقاقير مضاضّات الاكتئاب، البعيدة كل البعد عن الحاضر وجغرافية التنميط، الهائمة فوق أدراجٍ حجريّة كمن يستوي على عرش من ضباب، قوثيّة لشدّة ما شهدت على أكثر الأحزان وجودية، لكثرة ما أدمعت ودفنت في أحشائها من جثث وأسرار. فالقوثية ليست في هذه الكنائس السياحية ذات مواعيد الزيارة العقيمة، بل في حالة القشعريرة بين الكتب في أقاسي الليل، بين أحضان طقس جبليّ مثلج بطقوسه الماورائية، في خضّم أحاديث تجعل من الأرض بأسرها خاضعة لسفراتها العقلية. هناك حيث كان للوقت قيمة مهولة تنتهي بالهرولة خلفه، كي يقلّها.
لا يعقل أن تكون كلّ تلك الأمسيات والأحاديث قد جرت في وقت ما. كأنها بطابعها وبفعل من كتبها مبنية لا محالة من نهاية مثّلتها الكتب والطاولات والشبابيك المكشوفة والشرفة المعطّرة بالتبغ تحت أجساد من عاشها. بين ستائر من زجاج، في أكثر الأماكن التي استنشقت فيه أصالة الفنّ والفكر والموسيقى، لم تعد تعنيها غطرسة مسرح لا يكفيه ضوء خافت والقليل من الغبار. أو مكان لا ينوجد فيه دفء من ينتمي ولو بالبعد الى طبقتها، لهجتها، ومعاناتها. لا تشعر فيه بوقاحة الوجود وغياب رادعٍ عن نسيان ذاتها ومعاقبتها باختلاق أخرى، ككوبها الذي أضحى مرمدة دخّنها الصمت، وأيقنت أنها لم تكن من غادر، بل كانت المكتبة من ركلها عندما ملّت رؤيتها في معانيها وأوراقها...
وبحثت عن أخرى ولم تجد سوى مطمرة من ذكريات...







الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم