الأحد - 28 نيسان 2024

إعلان

آية الله غورباتشوف

المصدر: "النهار"
د. خالد محمد باطرفي
تظاهرات في إيران.
تظاهرات في إيران.
A+ A-
 
يُروى عن آخر رئيس لاتحاد الجمهوريات السوفياتية، ميخائيل غورباتشوف، تفسيره لما حدث في عهده بقوله: كلّ من سبقني من القادة كشف غطاء ما خفي من أحوال بلاده فهاله ما رأى، وما سمع وما اشتمّ! ولأنّ الحالة بدت ميؤوسًا منها، فقد أغلق كلّ منهم الغطاء بالضبّة والمفتاح.
أمّا أنا، فقد قرّرت التعامل بمبدأ الشفافية "غلاسنوست"، وكشفت الغطاء حتى يعلم الناس حقيقة الحالة، ويساعدوني في عملية إعادة البناء "البريسترويكا".
 
النهاية الحتمية
يبدو أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية تنتظر غورباتشوف جديد يكشف المستور ويواجه المريض بحالته الصحية، ويطلب المساعدة من الشعب والعالم لعلاجه. ورغم أنّ شخصيات مرّت تحت لواء الإصلاح وادّعت أنّها قادرة على ذلك، إلّا أنّ الأيام كشفت مرّة بعد أخرى، أنّ الحالة تستعصي على المسكّنات التي يعرضونها، ومن بيده الحلّ والربط ليس من مصلحته التخلّي عن الموارد المنهوبة للحسابات الشخصية، وشراء الولاءات والذمم، والمخصّصة لتحقيق أحلامه التوسّعية.
 
ولم يختلف الحال كثيرًا في حالة السوفيات، فقد استعصت المصالح الحزبية والذاتية على التضحية، والبرمجة العقائدية والقومية على التعديل، فتمرّدت الشعوب اليائسة، والقوميات المكبوتة، والأديان المسحوقة، وكان ما كان. فخلال عامين فقط من سقوط سور برلين، في نهاية 1989، الذي مثل برمزيته الانقسام الجدّي بين عالمين، ونظامين، وعقيدتين، تفكّك الاتحاد السوفياتي الذي وحّد بالقوة والعقيدة بين خمس عشرة جمهورية مستقلة، عدا تلك التي أصبحت جزءًا من جمهورية روسيا كداغستان والشيشان، أو التي هيمنت عليها موسكو في شرق أوروبا وأفريقيا وآسيا.
 
العودة الى الاستبداد
ثار الشيوعيون على القيصرية، والخمينيّون على الشاهنشاهية، ثمّ واصلوا حكم البلاد التي ثاروا على هيكليّتها وأسلوب حكمها بنفس الطريقة. فالجمهورية الإسلامية ثورة عقائدية "ثيوقراطية" ورثت أمبراطورية أخضعت بقوة السلاح ستّ قوميات مستقلة، في عهد الشاه الأب، رضا بهلوي، وأسمت الدولة الجديدة "إيران" اعتزازًا بالعرق الآري وتقرّبًا من الغرب.
 
وأكملت دولة الملالي الطريق، ولجأت للطريقة نفسها، فرضت "الشيعية الجعفرية" على كافة المسلمين فيها، ومنحت أتباع الأديان الأخرى حقوقاً دينية ومدنية، وحرمت على الكلّ حقوقهم السياسية.
 
خارطة القوميّات
معظم الأقليات العرقية في إيران تقطن المناطق الحدودية، فالعرب في الجنوب والجنوب الغربي، والبلوش في الجنوب والجنوب الشرقي، والتركمان في الشمال والشمال الشرقي، والأذريون في الشمال والشمال الغربي وأجزاء من الوسط، والأكراد في الغرب الجبليّ.
 
ولهذه العرقيات امتداداتها الخارجية، فالعرب ينتمون إلى العراق ودول الخليج، والبلوش يرتبطون بإقليم بلوشستان في باكستان وأفغانستان. ويجاور التركمان جمهورية تركمانستان، والأذريون جمهورية أذربيجان، ويتصل الأكراد بأقرانهم في الدول المجاورة، ويعتبرون أنفسهم شركاءَ في حلم دولة كردستان الكبرى، التي يطمحون لإقامتها على أقاليم تتبع حاليًّا تركيا وسوريا والعراق.
 
نسبة الأقليّات
وتختلف المصادر في تقدير نسب هذه القوميات من السكان البالغ تعدادهم 85 مليونًا. فحسب المصادر الرسمية يشكّل الفرس 51 % و الأكراد 24 % والجيلاك المازندارنيون 8 % والآذريون 7 % واللور 7 % والعرب والبلوش والتركمان 2 % لكلّ منهم، وبقية العرقيات 1 % من السكان. وتختلف هذه الأرقام بالزيادة والنقصان حسب مصادر هذه القوميات وأخرى مستقلة.
 
ويشكّل العامل المذهبيّ في النسيج العرقي الإيرانيّ بعداً لا يقلّ أهمية. فحسب الإحصاءات الحكومية، يشكّل الشيعة 89 % من السكان، والسنة 10 %. ويتوزّع 1 % بين الأرثوذكس الأرمن واليهود والزرادشتة وغيرهم. فيما ترتفع نسبة السنة الى 20 % حسب مصادر خارجية، وتزيد نسب الأديان الأخرى عن الأرقام الرسمية، ممّا يخفّض نسبة الشيعة الى النصف.
 
الحرب على الأعراق
إذن نحن أمام فسيفسائية عرقية ودينية مستقلة ومتداخلة، لها ثقافتها الخاصة، وتاريخها الخاص، وامتداداتها الخارجية. وكما حدث في عهد الشيوعية بنسختها السوفياتية، عندما فرضت القومية الروسية، والعقيدة الماركسية، ونظام الحزب الواحد على الجميع. وسعت الدولة من خلال برامج التعليم والإعلام والإدارة برمجة الوعي الجماعي لأجيال متوالية على مدى سبعين عامًا. فقد عملت إيران "الفارسية" على فرض حكم الأغلبية، والجمهورية "الجعفرية" على أدلجة الجميع.
 
حوربت الثقافات الأخرى، وحوصر حضورها في المشهد السياسي على قلّة ولائية. وعملت البرامج الدراسية والثقافية والدعائية على تكريس المفاهيم والطروحات السياسية والدستورية والفقهية. فيما حُرمت الاقليات، كالعرب الاحواز، والبلوش السنة، والأكراد السنة، من تدريس لغاتهم وثقافتهم، والاحتفال بمناسباتهم الدينية والفولكلورية، وحتى ارتداء ملابسهم التقليدية، وتسمية مواليدهم نسبة لرموزهم التاريخية.
 
فشل الاتّحاد السوفياتي بالأمس عندما حارب الأديان وطمس الثقافات وزوّر التاريخ وفرض العقيدة الماركسية على الجميع، وتفشل الجمهورية الإسلامية اليوم، في محاولتها الأربعينية لصهر الشعوب في بوتقة واحدة. فالإيمان مسألة فطرية، والقناعة مسألة عقلية، والتمايز مسألة جينية، والحياة اختيارات شخصية.
 
تبديد الموارد
وجه شبه آخر، يكمن في أمميّة العقيدة وتصدير الثورة وطموحات الهيمنة الأمبريالية. فهذا الخيار الذي قامت عليه فكرة الشيوعية العالمية ودفعت اليه منافسات القطبية الكونية، وجّه موارد الدولة نحو السيطرة الأمنية والفكرية والحزبية داخليًّا، ودعم الثورات والعملاء والحلفاء، خارجيًّا.
 
وفي الحالتين، لم يواكب الاقتصاد الاشتراكي الروسي، والاقتصاد المقاوم الإيراني، مشروع الدولة الأممية الشيوعية، أو الثورة الشيعية، ولم يوفر احتياجاتها وأولوياتها. رغم أنّ المصادر الطبيعية والبشرية المتاحة في الحالتين تفوق غيرها.
 
وفي المقابل، كرّس الخصوم مواردهم للتنمية البشرية والمكانية، واعتمدوا آليات السوق الحر، وتعاملوا مع العالم بمنطق الدولة المسؤولة، الملتزمة بالمواثيق الأممية، ومبادئ التجارة الدولية. وهكذا دخل التنافس حلبة تشهدها جماهير المتنافسين حيّة على الهواء، وتظهر نتائجها فوريًّا على شاشة العملات والأسهم ومؤشّرات التضخّم والبطالة وجودة الحياة.
 
الرابحون والخاسرون
خسر الاتحاد السوفياتي السباق، بعد أن دخل مرحلة حرب النجوم، في ثمانينات القرن العشرين، وانهار اقتصاده جملة وتفصيلًا، وثارت شعوبه طلباً للحرية والرخاء والسعادة، أسوة بنظرائهم خارج السور الحديدي.
 
واليوم تثور الشعوب الايرانية للأسباب والمطالب نفسها، فيما يزداد الحاكم والملّا والجلاد ثراء ورخاء وسلطة. ولم تعد أساطير الملالي الغيبية وثقافة الموت السوداوية ووعود الفتح المبين تنطلي على أجيال فتحت عينيها على نار ورماد.
 
يخرجون من جحيم حرب ليُزجّ بهم الى أخرى، وما بين جحيم وجحيم يستعرّ يباب الفقر والبطالة والحرمان. كلّ هذا على أرض أمجاد وثراء وعطاء، منحها الخالق كنوز النفط والغاز، الماء والزرع، الثقافة والتاريخ. ثمّ يتلفّت أهلها حولهم، فيرون ناطحات السحاب في دبي ومواسم الفرح في الرياض، وجودة الحياة في صحراء العرب التي تربوا على احتقارها. إن لم تكن هذه أسباب كافية للثورة فماذا يكون؟
 
أمّا أكثر الخاسرين، خارج إيران، فهم أولئك الذين خطّطوا لحاضرهم ومستقبلهم على دوام الحال. فكما خسرت الأنظمة الشيوعية المتحالفة مع السوفيات حليفاً كان يحميها وينفق من مال شعبه عليها، ستفتقد ميليشيات ومرتزقة الملالي في بلاد العرب ومواليها في آسيا وأفريقيا الضرع الذي ألفته، وتضطر الى الفطام التام، والتحوّل الى "أيتام على موائد اللئام".
 
الخروج من "السرداب"
يشير البعض الى أنّ التظاهرات السابقة، في 2009 على تزوير الانتخابات، واللاحقة على أحوال المعيشة، انتهت كلّها تحت سياط القمع، ويتوقعون أن تنتهي شعلة الثورة الحالية الى نفس المصير: سجون، تعب، وانطفاء! فما الفرق؟
 
الفرق في الأسباب والقادة. فتدهور الحالة المعيشية وتركيبة الحكم الاستبدادية لا زالت سيّئة، بل أسوأ. لكن الجديد في ثورة اليوم، أنّها ثورة حريات وأسلوب حياة، يقودها شباب ونساء،
وطلاب ومثقفون، من كلّ فكر وعمر، وعرق ودين، ومدينة وقرية. وزد على ذلك، أنّ من خرج على النظام ليس لديه ما يخسره، فلا حاضر يقبله، ولا مستقبل يرنو اليه. وهي للمفارقة نفس طبيعة الثورة الخمينية السوداء والثورة البلشفية الحمراء.
 
وعليه ّفإنّ مشهد اليوم يشبه مشاهد الأمس. سور برلين جديد يوشك أن ينهار، وأمة عظيمة توشك أن تخرج من "السرداب"، وحضارة عريقة توشك أن تحلّق كطائر الفينيق من رماد عباءات الأئمة، وجسور كبرى توشك أن تمرّ فوق العمائم السود نحو مستقبل أكثر إشراقاً، وجيرة أكثر اشتياقاً، وعالم أكثر ترحيباً بفارس الجديدة... شاء صهاينة وليبراليو الغرب وحلفاء الشرق، أم أبوا.
 
* أستاذ في جامعة الفيصل
 
@KBATARFI
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم