الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

مشكلتنا مع أميركا في غياب الرؤية وسوء التدبير

سمير التقي
جندي أميركي في العراق (أ.ف.ب).
جندي أميركي في العراق (أ.ف.ب).
A+ A-
اختلفت مع باحث في مؤتمر في تكساس، وصف الحديث الدارج في الشرق الأوسط حول انفضاض الولايات المتحدة بأنه أشبه بصدمة الفطام، فالفطام لا يفترض التخلي ولا التخبط. إذ لم تخف إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن رغبتها في تقليص تورطها العسكري المباشر في الإقليم، في وقت تهيمن مقولة "المنافسة الاستراتيجية" مع الصين على الساحة السياسية، لتشكل نقطة توافق نادرة بين الحزبين في واشنطن المنقسمة. 
 
لكن المناخ السائد في الإقليم يرجح أن تؤدي الديناميات المتولدة بعد انتهاء مفاوضات الملف النووي الإيراني، سلباً أو إيجاباً، بغض النظر عن حيثياتها، إلى طفرة في العنف وعدم الاستقرار في الإقليم. السبب في ذلك أن إيران رفضت بحث الوضع الإقليمي في إطار مباحثات الملف النووي، الأمر الذي يجعل الصراع الإقليمي والصراع الدولي في الإقليم، أكثر احتداماً حول خطوط التماس وبؤر الصراع. في ظروف كهذه، على الولايات المتحدة أن تتوقع أنه سيكون عليها، ليس الاستجابة لمطالب الحلفاء فحسب، بل التحوّط لتفاقم التحديات المباشرة لمصالحها. 

هذا فيما لم تعد الولايات المتحدة اللاعب الدولي الوحيد في الشرق الأوسط، بعدما سمح تراخيها بنمو الاستثمارات الاقتصادية والتكنولوجية الصينية، وبعد التدخل العسكري الروسي على مدى العقد الماضي. ويبدو أن لحظة التفرد الأميركي بالإقليم قد انتهت. لكن ذلك لا يعني على الإطلاق أن الشرق الأوسط قد انتهى من أميركا، أو أنها انتهت منه. 
 
عسكرياً، لا تزال الولايات المتحدة تحتفظ بقواعدها العسكرية المترامية في الإقليم وفي مياهه الزرقاء، وبقدرات عسكرية لا يمكن مقارنتها بأي قوة دولية منافسة. كما تحاول الأوساط العسكرية الأميركية أن تظهر مثابرة التزامها التحالفات من خلال عملياتها المشتركة مع حلفائها الإقليميين. وتجلى ذلك خلال زيارة وزير الدفاع السعودي خالد بن سلمان لواشنطن في تموز (يوليو)، والاستمرار النشط للمناورات البحرية المشتركة مع الدول الحليفة، فيما تستمر في صفقات سلاح بقيمة 650 مليون دولار للمملكة العربية السعودية، ويستمر الحوار الاستراتيجي مع دول الخليج الأخرى، وتمنح الولايات المتحدة 1.3 مليار دولار سنوياً لمصر التي لا تزال من بين أكبر ثلاثة متلقين للمساعدات العسكرية الأميركية في العالم. 
 
لكن واشنطن تهدر بترف هذا الجهد العسكري، وهذه القدرات. إذ تعاني علاقات الإدارة مع حلفائها في الشرق الأوسط من الكثير من خفة القرار وعدم الثقة والغموض وسوء التدبير، الأمر الذي يضعف كثيراً هذه الجهود، بل يقلبها رأساً على عقب.
 
ولا يتوقف الأمر على ما يحمله سحب صواريخ باتريوت من معانٍ، ولا ما يحمله تخفيض مواصفات طائرات الـF35 التي كان يقترح بيعها للإمارات، ولا الكيل بمكيالين في ما يخص  الحرب في كل من اليمن والعراق وسوريا، بل الأمر يتعلق بسلوك استراتيجي أوسع يدعو الى التساؤل حول المرمى البعيد للإدارة وأهدافها في الإقليم، الأمر الذي يزيد حالة عدم الاستقرار في الإقليم، والحبل على الجرار.
 
وآخر مستجدات هذا التخبط أنه بعد حديث يصم الآذان عن استغناء الولايات المتحدة عن نفط الخليج، ها هي تستشيط غضباً من ارتفاع نسبي لأسعار النفط الناجم عن تعافي الاقتصاد العالمي. 
 
الولايات المتحدة لم تنته بعد قطعاً من الإقليم. وهو لم ينته منها. فالاحتدام الذي ستحمله الدورة المقبلة للصراع والمخاطر التي يحملها هذا الاحتمال على الأمن والسلام كفيلة بأن تذكر الاستراتيجيين الجدد بدروس العقود الطويلة الماضية.
 
حرب الظل بين إيران ودول الإقليم، بما فيها إسرائيل، قد لا تبقى حرباً في الظل. وحتى لو نجح صناع السياسة الأميركيون في تجنب حرب شاملة مع إيران، واحتووا طموحاتها النووية، فمن المرجح أن يجدوا أنفسهم في صراع منخفض المستوى للنفوذ الإقليمي مع طهران. بل إن من شبه المؤكد أن إسرائيل، والعديد من دول الإقليم التي كانت إدارة بايدن تتودد إليها، لن تدعم التنازلات لإيران. وفيما يجري المسؤولون الأميركيون مع الإسرائيليين محادثات مكثفة، فمن المؤكد أن الإسرائيليين لن يضعوا إيران في مؤخرة اهتماماتهم، لمجرد طلب الإدارة الأميركية ذلك، الأمر الذي يضمن استمرار التصعيد.  


لقد توسعت "حرب الظل" مع إيران إلى حد كبير وانتقلت الى ما هو أبعد من المسرح السوري، في البر والبحر والفضاء السيبراني. ويتجنب نفتالي بينيت حتى الآن الخلاف العلني مع واشنطن حول الملف الإيراني، لكن سياساته لا تبدو مختلفة اختلافاً ملحوظاً عن سياسات نتنياهو، بل لعلها تذهب الى مدى أبعد. فلقد استمر في الحملة العسكرية السرية، وتحدث عن استراتيجية "الموت بألف قطعة" تجاه طهران. 


الالتزام السياسي الأميركي بأمن إسرائيل عميق، لدرجة أنه سيكون من الصعب على واشنطن البقاء على الهامش في حالة نشوب صراع إيراني إسرائيلي شامل. كما أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني لا يزال يغلي، حتى لو كانت القضية الفلسطينية تبدو أقل التهاباً بالنسبة الى المنطقة.
 
فحوادث غزة الأخيرة أثبتت من جديد أن الولايات المتحدة لا يمكن أن تدير ظهرها لما يجري لاحتواء الصراع. وإذا كانت الولايات المتحدة تريد حقاً تنفيذ سياساتها تنفيذاً مختلفاً وأكثر نجاحاً، لا بد من معالجة هذا التخبط الضار والتجاذب بين المؤسسات. 


مشكلة أميركا أنها تتورط حتى شوشتها، تقصف وتدمر وتقتل ثم تظن أنها تستطيع أن تترك فضلاتها وتذهب، من بيروت إلى أفغانستان الى العراق الى الخليج. مشكلة أميركا، بل مشكلتنا مع أميركا، ليست في كونها تعيد هيكلة دورها في الإقليم، بل المشكلة أنها في إطار تكتيكاتها هذه، تتعثر وتزعزع مصداقيتها وتضعف أهدافها الاستراتيجية، في منطقة يغني فيها كل على ليلاه، وتضيق فيها هوامش الخطأ، حتى تنعدم أحياناً.


نقلاً عن "النهار العربي"

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم